بَابُ مَنْ تَزَوَّجَ وَلَمْ يُسَمِّ صَدَاقًا
ــ
[نيل الأوطار]
اللَّامِ: أَيْ لِأَجْلِ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، فَأَكْرَمَهُ بِأَنْ زَوَّجَهُ الْمَرْأَةَ بِلَا مَهْرٍ، لِأَجْلِ كَوْنِهِ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِبَعْضِهِ. وَنَظِيرُهُ قِصَّةُ أَبِي طَلْحَةَ مَعَ أُمِّ سُلَيْمٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا مِثْلُكَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ كَافِرٌ وَأَنَا مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَلِكَ مَهْرِي وَلَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا» . وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ أَيْضًا نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَيُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا فُلَانُ هَلْ تَزَوَّجْت؟ قَالَ: لَا، وَلَيْسَ عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ قَالَ: أَلَيْسَ مَعَكَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» .
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَهَا إيَّاهُ لِأَجْلِ مَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي حَفِظَهُ وَسَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ فَيَكُونُ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ إذَا أَيْسَرَ كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: «فَإِذَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَعَوِّضْهَا» قَالَ فِي الْفَتْحِ: لَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ. وَأَجَابَ الْبَعْضُ بِاحْتِمَالِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَهُ لِأَجْلِ مَا حَفِظَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَصْدَقَ عَنْهُ كَمَا كَفَّرَ عَنْ الَّذِي وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْرِيضِ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِهِ وَالتَّنْوِيهِ بِفَضْلِ أَهْلِهِ. وَأُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّصْرِيحِ بِجَعْلِ التَّعْلِيمِ عِوَضًا.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ جَعْلِ الْمَنْفَعَةِ صَدَاقًا الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَبِهِ قَالَتْ الْعِتْرَةُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ خِلَافٌ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْحُرِّ وَأَجَازُوهُ فِي الْعَبْدِ، إلَّا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَمَنَعُوهُ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَهُمْ فِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عَنْ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا الْحَنَفِيَّةَ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: زَوَّجَهُ عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ إجَارَةً، وَهَذَا كَرِهَهُ مَالِكٌ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ بِالتَّعْلِيمِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَوْلُهُ: " عَلِّمْهَا " نَصٌّ فِي الْأَمْرِ بِالتَّعْلِيمِ، وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ النِّكَاحِ فَلَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ كَانَ إكْرَامًا لِلرَّجُلِ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مُصَرِّحٌ بِخِلَافِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى اللَّامِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لُغَةً وَلَا مَسَاقًا.
وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا قَرِيبَ لَهَا، وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ مِنْ الْفَوَائِدِ فِي الْفَتْحِ، وَذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ فَائِدَةً، فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute