بَابُ رَجْمِ الْمُحْصَنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْإِحْصَانِ
ــ
[نيل الأوطار]
جَعْلُهُ قَرِينَةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّغْرِيبِ هُوَ الْحَبْسُ أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ النَّهْيَ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الْمَحْرَمِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِأَحَادِيثِ التَّغْرِيبِ، وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ أَمْرَ التَّغْرِيبِ إلَى الْإِمَامِ لَا إلَى الْمَحْدُودِ، وَنَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْ السَّفَرِ إذَا كَانَتْ مُخْتَارَةً لَهُ، وَأَمَّا مَعَ الْإِكْرَاهِ مِنْ الْإِمَامِ فَلَا نَهْيَ يَتَعَلَّقُ بِهَا. قَوْلُهُ: (جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ. وَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ لِلْمُحْصَنِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. أَمَّا الرَّجْمُ فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ حَكَاهُ عَنْهُمْ أَيْضًا ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَحَكَاهُ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَالنَّظَّامِ وَأَصْحَابِهِ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْجَمْعُ عَلَيْهَا
وَأَيْضًا هُوَ ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لِحَدِيثِ عُمَرَ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ «أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةُ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ» ، وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ الْحُكْمِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ خَالَتِهِ الْعَجْمَاءِ: «إنَّ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنْ اللَّذَّةِ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِلَفْظِ: «كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُوَازِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَكَانَ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» الْحَدِيثُ، وَأَمَّا الْجَلْدُ فَقَدْ ذَهَبَ إلَى إيجَابِهِ عَلَى الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْعِتْرَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ تَمَسُّكًا بِمَا سَلَفَ. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الْمُحْصَنُ بَلْ يُرْجَمُ فَقَطْ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَتَمَسَّكُوا بِحَدِيثِ سَمُرَةَ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْلِدْ مَاعِزًا بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى رَجْمِهِ، قَالُوا: وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ أَحَادِيثِ الْجَلْدِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمَذْكُورِ
وَيُجَابُ بِمَنْعِ التَّأَخُّرِ الْمُدَّعَى فَلَا يَصْلُحُ تَرْكُ جَلْدِ مَاعِزٍ لِلنَّسْخِ لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّأَخُّرِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ تَأَخُّرِهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ مُقْتَضِيًا لِإِبْطَالِ الْجَلْدِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْمُحْصَنِ أَنَّهُ زَانٍ فَكَيْفَ إذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ كَحَدِيثِ عُبَادَةَ الْمَذْكُورِ وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَقَامِ الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيمِ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِأَخْذِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَنْهُ فَقَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي» فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعَدَمِ نَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِسُكُوتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ أَوْ عَدَمِ بَيَانِهِ لِذَلِكَ أَوْ إهْمَالِهِ لِلْأَمْرِ بِهِ، وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ جَلْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَاعِزٍ وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ فِي رُتْبَتِهِ فَكَيْفَ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُثْبِتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute