للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ اسْتِفْسَارِ الْمُقِرِّ بِالزِّنَا وَاعْتِبَارِ تَصْرِيحه بِمَا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ

ــ

[نيل الأوطار]

فِي بَابِ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتْ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَاعْتَرَفَ أَنَّهُ الْفَاعِلُ، فَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ رَجَمَهُ " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّهُ عَفَا عَنْهُ " وَهُوَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيِّ

وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْيَهُودِيَّيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَّرَ عَلَيْهِمَا الْإِقْرَارَ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ تَرْبِيعُ الْإِقْرَارِ شَرْطًا لَمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَاتِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا سَفْكُ الدِّمَاءِ وَهَتْكُ الْحُرُمِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ قَيَّدَتْهَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ وَقَعَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ، وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا تَرْبِيعُ الْإِقْرَارِ أَفْعَالٌ وَلَا ظَاهِرَ لَهَا، وَغَايَةُ مَا فِيهَا جَوَازُ تَأْخِيرِ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ وُقُوعِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَرْبَعٍ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ لِقَصْدِ التَّثَبُّتِ كَمَا يُشْعِرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُ: " أَبِكَ جُنُونٌ؟ " ثُمَّ سُؤَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِقَوْمِهِ، فَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا التَّرَاخِي عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ صُدُورِ الْإِقْرَارِ مَرَّةً عَلَى مَنْ كَانَ أَمْرُهُ مُلْتَبِسًا فِي ثُبُوتِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِهِ وَالصَّحْوِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَحَادِيثُ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَسَلَامَةِ إقْرَارِهِ عَنْ الْمُبْطِلَاتِ

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ بُرَيْدَةَ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ أَنَّهُ لَوْ جَلَسَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَرْجُمْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَكُونُ فَهْمُهُ حُجَّةً إذَا عَارَضَ الدَّلِيلَ الصَّحِيحَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَتْ لَهُ الْغَامِدِيَّةُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَرْدُدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزًا؟ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ تَأْخِيرِ الرَّجْمِ عَنْ الْحُبْلَى، وَلَوْ كَانَ تَرْبِيعُ الْإِقْرَارِ شَرْطًا لَقَالَ لَهَا: إنَّمَا رَدَدْتُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعًا، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَرْبِيعَ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّصْرِيحِ فِيهَا بِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ. وَقَدْ اكْتَفَى فِيهَا بِدُونِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ كَمَا سَيَأْتِي وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ «شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ» فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ أَصْلًا، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ الرَّجْمَ لِذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي الِاسْتِحْقَاقَ دُونَهُ فِيمَا دُونِهِ وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ الرَّجْمُ بِدُونِ حُصُولِ التَّرْبِيعِ كَمَا سَلَفَ

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ عَلَى شَهَادَةِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ اُعْتُبِرَ فِي إقْرَارِهِ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَا يَكْفِي فِيهَا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ لَك عَدَمُ اشْتِرَاط الْأَرْبَعِ عَرَفْتَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْقَاسِمِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْأَرْبَعَ لَا تَكْفِي أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِي أَرْبَعَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>