بَاب اسْتِئْذَان الْأَبَوَيْنِ فِي الْجِهَاد
ــ
[نيل الأوطار]
الْغَزْوِ مَعَ قَوْمِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِ قَوْمِهِ مِمَّنْ طُلِبُوا إلَى الْغَزْوِ لِيَكُونَ عِوَضًا عَنْ أَحَدِهِمْ بِالْأُجْرَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ خُرُوجُهُ لِلدُّنْيَا لَا لِلدِّينِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَهُوَ الْأَجِيرُ إلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ» : أَيْ لَا يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ دَمِهِ شَيْءٌ، بَلْ فِي سَبِيلِ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ وَأَجْرُ الْغَازِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْغَزْوِ مَنْ خَرَجَ بِالْأُجْرَةِ بَلْ يَكُونُ أَجْرُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ الْجَعَالَةَ: أَيْ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْ أَجْرُ الْمَجْعُولِ لَهُ مُنْضَمًّا إلَى أَجْرِ الْجَاعِلِ إذَا كَانَ غَازِيًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَازِيًا فَلَهُ أَجْرُ الَّذِي دَفَعَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ وَأَجْرُ الْمَجْعُولِ لَهُ. قَوْلُهُ: (مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا) أَيْ هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ سَفَرِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ. قَوْلُهُ: (فَقَدْ غَزَا) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ وَإِنْ لَمْ يَغْزُ حَقِيقَةً. ثُمَّ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظِ: «كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا حَتَّى يَسْتَقِلَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرْجِعَ» وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ بَعْثًا، وَقَالَ: لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ» فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْغَازِيَ إذَا جَهَّزَ نَفْسَهُ وَقَامَ بِكِفَايَةِ مَنْ يَخْلُفُهُ بَعْدُ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَفْظَةُ نِصْفِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُقْحَمَةً مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي وَرَدَتْ بِمِثْلِ ثَوَابِ الْفِعْلِ حُصُولُ أَصْلِ الْأَجْرِ لَهُ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ، وَأَنَّ التَّضْعِيفَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ. قَالَ: وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ مَثَلًا هَلْ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ مَعَ التَّضْعِيفِ أَوْ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ؟ وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ وَالْمُشَاطَرَةَ فَافْتَرَقَا. ثَانِيهِمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ احْتِمَالِ كَوْنِ لَفْظَةِ نِصْفِ زَائِدَةً. قَالَ الْحَافِظُ: لَا حَاجَةَ لِدَعْوَى زِيَادَتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ فِي تَوْجِيهِهَا أَنَّهَا أُطْلِقَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ لِلْغَازِي وَالْخَالِفِ لَهُ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الثَّوَابَ إذَا انْقَسَمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ.
وَأَمَّا مَنْ وُعِدَ بِمِثْلِ ثَوَابِ الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ دَلَالَةٌ أَوْ مُشَارَكَةٌ أَوْ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ فِي عَدَمِ التَّضْعِيفِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَصَرْفُ الْخَبَرِ عَنْ ظَاهِرِهِ يَحْتَاجُ إلَى مُسْتَنَدٍ، وَكَأَنَّ مُسْتَنَدَ الْقَائِلِ: أَنَّ الْعَامِلَ يُبَاشِرُ الْمَشَقَّةَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الدَّالِّ وَنَحْوِهِ، لَكِنْ مَنْ يُجَهِّزُ الْغَازِيَ بِمَالِهِ مَثَلًا، وَكَذَا مَنْ يَخْلُفُهُ فِيمَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنْ الْمَشَقَّةِ، أَيْضًا فَإِنَّ الْغَازِيَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْغَزْوُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ الْعَمَلَ فَصَارَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute