بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُبَارَزَةِ
ــ
[نيل الأوطار]
فِي اسْتِخْلَاصِ مَالِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِخْبَارُهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ هَزَمُوا الْمُسْلِمِينَ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ: «الْكَذِبُ كُلُّهُ إثْمٌ إلَّا مَا نُفِعَ بِهِ مُسْلِمٌ، أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: ٨٩] وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: ٦٣] وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةُ الْحَدِيثَ» .
قَوْلُهُ: (فَأْذَنْ لِي فَأَقُولَ) أَيْ أَقُولُ مَا لَا يَحِلُّ فِي جَانِبِكَ. قَوْلُهُ: (عَنَّانَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى: أَيْ كَلَّفَنَا بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَقَوْلُهُ: " سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ " أَيْ طَلَبَهَا مِنَّا لِيَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا. وَقَوْلُهُ: " فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ ". . . إلَخْ مَعْنَاهُ نَكْرَهُ فِرَاقَهُ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابَ الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ. قَالَ ابْنُ الْمُنِيرُ: التَّرْجَمَةُ غَيْرُ مُطَابِقَةٍ، لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْكَذِبِ وَأَنَّ مَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ وَهُوَ صِدْقٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِيمَا قَالُوهُ شَيْءٌ مِنْ الْكَذِبِ أَصْلًا، وَجَمِيعُ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ تَلْوِيحٌ كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ تَرْجَمَ يَعْنِي الْبُخَارِيُّ لِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةُ أَوَّلًا ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ، قَالَ: قُلْ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِذْنُ فِي الْكَذِبِ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا.
قَوْلُهُ: (إلَّا فِي الْحَرْبِ. . . إلَخْ) قَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى جَوَازِ الْكَذِبِ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، وَقَالُوا: إنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ كَالْمِثَالِ، وَقَالُوا: إنَّ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ إنَّمَا هُوَ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَحَمَلُوا الْكَذِبَ الْمُرَادَ هُنَا عَلَى التَّوْرِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ كَمَنْ يَقُولُ لِلظَّالِمِ: دَعَوْتُ لَكَ أَمْسِ، هُوَ يُرِيدُ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَعِدُ امْرَأَتَهُ بِعَطِيَّةِ شَيْءٍ وَيُرِيدُ إنْ قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأَنْ يُظْهِرَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةَ قَلْبٍ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الْخَطَّابِيِّ، وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُهَلَّبُ وَالْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: الظَّاهِرُ إبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْتَثْنَى الْجَائِزِ بِالنَّصِّ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ وَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَذِبِ بِالْعَقْلِ مَا انْقَلَبَ حَلَالًا، انْتَهَى.
وَيُقَوِّي ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ الْمَذْكُورُ وَلَا يُعَارِضُ مَا وَرَدَ فِي جَوَازِ الْكَذِبِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَقَوْلُ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَفَّ عَنْ بَيْعَتِهِ هَلَّا أَوْمَأْتَ إلَيْنَا بِعَيْنِكَ قَالَ «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ بِالْخِدَاعِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ حَالَةُ الْحَرْبِ خَاصَّةً، وَأَمَّا حَالَةُ الْمُبَايَعَةِ فَلَيْسَتْ بِحَالَةِ حَرْبٍ كَذَا قِيلَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ قِصَّةَ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ أَيْضًا لَمْ تَكُنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute