للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ بَاقِيَةٌ مَا بَقِيَتْ الْمُقَاتَلَةُ لِلْكُفَّارِ قَوْلُهُ: (لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) أَصْلُ الْهِجْرَةِ هَجْرُ الْوَطَنِ، وَأَكْثَرُ مَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ رَحَلَ مِنْ الْبَادِيَةِ إلَى الْقَرْيَةِ قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي مُخَالَفَةَ حُكْمِ مَا بَعْدَهُ لِمَا قَبْلَهُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَةَ الَّتِي هِيَ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَةً عَلَى الْأَعْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ انْقَطَعَتْ إلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ بَاقِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِسَبَبِ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَالْفِرَارِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْفِرَارِ بِالدِّينِ مِنْ الْفِتَنِ وَالنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) .

قَالَ النَّوَوِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي انْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا أَمَرَكُمْ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَاخْرُجُوا إلَيْهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إنَّ قَوْلُهُ: " وَلَكِنْ جِهَادٌ. . . إلَخْ " مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلٍّ مَدْخُولٍ " لَا هِجْرَةَ " أَيْ الْهِجْرَةُ مِنْ الْوَطَنِ إمَّا لِلْفِرَارِ مِنْ الْكُفَّارِ، أَوْ إلَى الْجِهَادِ أَوْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَطَلَبِ الْعِلْمِ فَانْقَطَعَتْ الْأُولَى وَبَقِيَتْ الْأُخْرَيَانِ فَاغْتَنِمُوهُمَا وَلَا تَقَاعَدُوا عَنْهُمَا بَلْ إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا. قَالَ الْحَافِظُ: وَلَيْسَ.

الْأَمْرُ فِي انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى مَا قَالَ انْتَهَى.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ، فَقَالَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ: كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى الِاجْتِمَاعِ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوٌّ انْتَهَى.

قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَى مَنْ يُؤْذِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: ٩٧] الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَقَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ الدِّينِ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ فَقَدْ صَارَتْ الْبَلَدُ بِهِ دَارَ إسْلَامٍ، فَالْإِقَامَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الرِّحْلَةِ عَنْهَا لِمَا يُتَرَجَّى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الرَّأْيِ مِنْ الْمُصَادَمَةِ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ الْقَاضِيَةِ بِتَحْرِيمِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ أَيْضًا: إنَّ الْهِجْرَةَ اُفْتُرِضَتْ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ إلَى حَضْرَتِهِ لِلْقِتَالِ مَعَهُ وَتَعَلُّمِ شَرَائِع الدِّينِ. وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ حَتَّى قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢] فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ الْوَاجِبَةُ وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، فَقَوْلُهُ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " أَيْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ: " لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>