للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهُ فَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ. وَأَسْنَدُوا هَذَا الْمَنْعَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ لَفْظَةَ " يَسْتَحِلُّونَ " لَيْسَتْ نَصًّا فِي تَحْرِيمٍ، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لِذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْأُمُورِ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى الِاعْتِقَادِ يُشْعِرُ بِتَحْرِيمِ الْمُلَابَسَةِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ. وَأَمَّا دَعْوَى التَّجَوُّزِ فَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ وَلَا مُلْجِأَ إلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا.

وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَعَازِفَ مُخْتَلَفٌ فِي مَدْلُولِهَا كَمَا سَلَفَ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَأَنْ يَكُونَ لِلْآلَةِ وَلِغَيْرِ الْآلَةِ لَمْ يَنْتَهِضْ لِلِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا وَالرَّاجِحُ التَّوَقُّفُ فِيهِ أَوْ حَقِيقَةً وَمَجَازًا وَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَالظَّاهِرُ الْحَقِيقَةُ فِي الْكُلِّ مِنْ الْمَعَانِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ بَلْ وُضِعَ لِلْجَمِيعِ، عَلَى أَنَّ الرَّاجِحَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ مَعَ عَدَمِ التَّضَادِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَعَازِفُ الْمَنْصُوصُ عَلَى تَحْرِيمِهَا هِيَ الْمُقْتَرِنَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ كَمَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ «لِيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ الْقِيَانُ وَتَغْدُو عَلَيْهِمْ الْمَعَازِفُ» .

وَيُجَابُ بِأَنَّ الِاقْتِرَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْجَمْعُ فَقَطْ وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ الزِّنَا الْمُصَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لَا يُحَرَّمُ إلَّا عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَعَازِفِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وَأَيْضًا يَلْزَمُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى - {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة: ٣٣] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: ٣٤]- أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَإِنْ قِيلَ تَحْرِيمُ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِلْزَامِ قَدْ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ. فَيُجَابُ بِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمَعَازِفِ قَدْ عُلِمَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ أَيْضًا كَمَا سَلَفَ، عَلَى أَنَّهُ لَا مُلْجِأَ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُصَارَ إلَيْهِ.

وَرَابِعُهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ يَسْتَحِلُّونَ مَجْمُوعَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَوْ الْوَعِيدِ عَلَى مَجْمُوعِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَاسْتَدَلُّوا ثَانِيًا بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَجَابَ عَنْهَا الْمُجَوِّزُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَامِ فِي أَسَانِيدِهَا. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ تَنْتَهِضُ بِمَجْمُوعِهَا وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ حَسُنَ بَعْضُهَا، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ قِسْمِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا غَيْرُهُ.

وَقَدْ اسْتَوْفَيْت ذَلِكَ فِي رِسَالَةٍ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ «إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ» فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَبَعْضُهَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ ابْنِ صَصْرَى فِي أَمَالِيهِ. وَمِنْهُ عَنْ جَابِرٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ وَمِنْهُ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ الدَّيْلَمِيِّ فِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالْمَقْدِسِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>