للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

فَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعِبَادَةِ أَوْلَى بِهِ لِعُسْرِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَرَكَ الْعِلْمَ لَأَوْشَكَ عَلَى أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِإِعْرَاضِهِ. وَالثَّانِي لَوْ أَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ وَتَرَكَ الْعِبَادَةَ فَاتَهُ الْأَمْرَانِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْأَوَّلِ لَهُ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الثَّانِي انْتَهَى

قَوْلُهُ: (إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ. . . إلَخْ) هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ " إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ جُرْمًا " قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَظِيمًا ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ جُرْمًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ نَفْسُهُ جُرْمٌ، قَالَ: وَقَوْلُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ: أَيْ فِي حَقِّهِمْ. قَوْلُهُ: (فَحُرِّمَ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْمُهَلَّبِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَتَمَسَّكُ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ فِي أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَهُوَ فَاعِلُ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْذِيرِ مِمَّا ذَكَرَ فَعَظَّمَ جُرْمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْكَارِهِينَ لِفِعْلِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَهْلُ السُّنَّةِ لَا يُنْكِرُونَ إمْكَانَ التَّعْلِيلِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُجُوبَهُ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ إنْ سُئِلَ عَنْهُ فَقَدْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّ السُّؤَالَ عِلَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ.

وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: قِيلَ الْجُرْمُ اللَّاحِقُ بِهِ إلْحَاقُ الْمُسْلِمِينَ الْمَضَرَّةَ لِسُؤَالِهِ، وَهِيَ مَنْعُهُمْ التَّصَرُّفَ فِيمَا كَانَ حَلَالًا قَبْلَ مَسْأَلَتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْمُرَادُ بِالْجُرْمِ هُنَا الْحَدَثُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِثْمِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ كَانَ مُبَاحًا، وَلِهَذَا قَالَ: " سَلُونِي " وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ.

وَالصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْخَطَّابِيِّ وَالتَّيْمِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُرْمِ: الْإِثْمُ، وَالذَّنْبُ حَمَلُوهُ عَلَى مَنْ سَأَلَ تَكَلُّفًا وَتَعَنُّتًا فِيمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إلَيْهِ، وَسَبَبُ تَخْصِيصِهِ ثُبُوتُ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: ٤٣] فَمَنْ سَأَلَ عَنْ نَازِلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ لِضَرُورَتِهِ إلَيْهَا فَهُوَ مَعْذُورٌ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا عَتَبَ، فَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ وَالزَّجْرِ عَنْهُ مَخْصُوصٌ بِجِهَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى. قَالَ: وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ شَيْئًا أَضَرَّ بِهِ غَيْرَهُ كَانَ آثِمًا. وَأَوْرَدَ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى الْحَدِيثِ سُؤَالًا فَقَالَ: السُّؤَالُ لَيْسَ بِجَرِيمَةٍ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَيْسَ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَأَجَابَ أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الشَّيْء بِحَيْثُ يَصِيرُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مُبَاحٍ هُوَ أَعْظَمُ الْجُرْمِ لِأَنَّهُ صَارَ سَبَبًا لِتَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْقَتْلُ مَثَلًا كَبِيرَةٌ وَلَكِنْ مَضَرَّتُهُ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَقْتُولِ وَحْدَهُ أَوْ إلَى مَنْ هُوَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ بِخِلَافِ صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ فَضَرَرُهَا عَامٌّ لِلْجَمِيعِ انْتَهَى.

وَقَدْ رُوِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمَسَائِلِ مَا كَانَ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ. أَخْرَجَ الْبَزَّارُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الشَّيْءِ مِنْ الْأَمْرِ فَيَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ، فَلَا يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ» قَوْلُهُ: (ذَرُونِي) فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: " دَعُونِي " وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَوْلُهُ: (مَا تَرَكَتْكُمْ) أَيْ مُدَّةُ تَرْكِي إيَّاكُمْ بِغَيْرِ أَمْرٍ بِشَيْءٍ وَلَا نَهْيٍ عَنْ شَيْءٍ. قَالَ ابْنُ فَرَجٍ: مَعْنَاهُ لَا تُكْثِرُوا مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>