للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ مَا يُبَاحُ مِنْ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ

ــ

[نيل الأوطار]

الِاسْتِفْصَالِ عَنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَكُونُ مُفِيدَةً لِوَجْهِ مَا ظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ صَالِحَةً لِغَيْرِهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: " حَجُّوا " وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلتَّكْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَهُوَ الْمَرَّةُ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّيَادَةِ وَلَا يَكْثُرُ التَّعَنُّتُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْبَقَرَةِ.

قَوْلُهُ: (وَاخْتِلَافُهُمْ) يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْجَرُّ. قَوْلُهُ: (فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ) هَذَا النَّهْيُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَنَاهِي، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يُكْرَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ قَوْمٌ فَتَمَسَّكُوا بِالْعُمُومِ فَقَالُوا: الْإِكْرَاهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ لَا يُبِيحُهَا. قَوْلُهُ: (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَيْ اجْعَلُوهُ قَدْرَ اسْتَطَاعَتِكُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ رُكْنٍ مِنْهَا أَوْ شَرْطٍ فَيَأْتِي بِالْمَقْدُورِ، وَكَذَا الْوُضُوءُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَحِفْظُ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ، وَإِخْرَاجُ بَعْضِ زَكَاةِ الْفِطْرِ لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكُلِّ وَالْإِمْسَاكُ فِي رَمَضَانَ لِمَنْ أَفْطَرَ بِالْعُذْرِ ثُمَّ قَدَرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَطُولُ شَرْحُهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إنْ أُمِرَ بِشَيْءٍ فَعَجَزَ عَنْ بَعْضِهِ فَفَعَلَ الْمَقْدُورَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيّ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.

وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الِاجْتِنَابَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَلَوْ مَعَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّرْكِ، وَقَيَّدَ فِي الْمَأْمُورَاتِ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النَّهْيِ أَيْضًا إذْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. فَجَوَابُهُ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ تُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ، كَذَا قِيلَ. قَالَ الْحَافِظُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْأَمْرِ بِالِاسْتِطَاعَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى مِنْ الِاعْتِبَارِ، بَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْكَفِّ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ قَادِرٌ عَلَى الْكَفِّ لَوْلَا دَاعِيَةُ الشُّهْرَةِ مَثَلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمٌ مِنْ الْكَفِّ بَلْ كُلُّ مُكَلَّفٍ قَادِرٌ عَلَى التَّرْكِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ عَنْ تَعَاطِيهِ مَحْسُوسٌ، فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ فِي الْأَمْرِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ دُونَ النَّهْيِ، قَالَ ابْنُ فَرَجٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ: إنَّ الْأَمْرَ بِالِاجْتِنَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ حَتَّى يُوجَدَ مَا يُبِيحُهُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ جَوَازُ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا كَانَ الْقَلْبُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ.

قَالَ الْحَافِظُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي كُلِّ ذَلِكَ لَيْسَ مَنْهِيًّا فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّ الْكَفَّ عَنْ الْمَعَاصِي تَرْكٌ وَهُوَ سَهْلٌ، وَعَمَلُ الطَّاعَةِ فِعْلٌ وَهُوَ شَاقٌّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُبِحْ ارْتِكَابَ الْمَعْصِيَةِ وَلَوْ مَعَ الْعُذْرِ لِأَنَّهُ تَرْكٌ، وَالتَّرْكُ لَا يَعْجَزُ الْمَعْذُورُ عَنْهُ، وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦] يَتَنَاوَلُ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ وَاجْتِنَابَ الْمَنْهِيِّ، وَقَدْ قُيِّدَ بِالِاسْتِطَاعَةِ فَاسْتَوَيَا، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِ الْحَدِيثِ بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِبِ الْأَمْرِ دُونَ النَّهْيِ أَنَّ الْعَجْزَ يَكْثُرُ تَصَوُّرُهُ فِي الْأَمْرِ بِخِلَافِ

<<  <  ج: ص:  >  >>