للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَبْوَابُ الطِّبِّ بَابُ إبَاحَةُ التَّدَاوِي وَتَرْكُهُ

ــ

[نيل الأوطار]

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ الطَّوِيلِ " قُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى يَشْرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّ السَّاقِيَ آخِرَهُمْ " قَوْلُهُ: (فَمَضْمَضَ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ شَرَابِ اللَّبَنِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِلَفْظِ «تَمَضْمَضُوا مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ» وَالْعِلَّةُ: الدُّسُومَةُ الْكَائِنَةُ فِي اللَّبَنِ، وَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ دُسُومَةٌ مِنْ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ فَإِنَّهَا تَشْرَعُ لَهُ الْمَضْمَضَةُ قَوْلُهُ: (قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ) أَيْ مُزِجَ بِالْمَاءِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَمْزُجُونَهُ بِالْمَاءِ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ عِنْدَ حَلْبِهِ حَارًّا وَتِلْكَ الْبِلَادُ فِي الْغَالِبِ حَارَّةٌ، فَكَانُوا يَمْزُجُونَهُ بِالْمَاءِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ: الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الْأَيْمَنُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ: أَيْ الْأَيْمَنُ مُقَدَّمٌ أَوْ أَحَقُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ قَدِّمُوا الْأَيْمَنَ أَوْ اُعْطُوا.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ عَلَى يَمِينِ الشَّارِبِ فِي الشُّرْبِ وَهَلُمَّ جَرَّا، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: يَجِبُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ شَرَابِ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ. وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّهُ بِالْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ عِيَاضٌ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ السُّنَّةَ ثَبَتَتْ نَصًّا فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَتَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ فِي غَيْرِ شُرْبِ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ اخْتِصَاصُ الْمَاءِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَشْرُوبَاتِ، وَمِنْ ثَمَّ اُخْتُلِفَ هَلْ يَجْرِي الرِّبَا فِيهِ وَهُوَ يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ نَصَّ فِي اللَّبَنِ. وَحَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ يَعُمُّ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ، فَتَأْوِيلُ قَوْلِ مَالِكٍ بِأَنَّ السُّنَّةَ ثَبَتَتْ فِي الْمَاءِ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ لَأَعْطَاهُمْ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِيثَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّهُ لَا إيثَارَ بِالْقُرَبِ. وَعِبَارَةُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا لَا يَجُوزُ التَّبَرُّعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْقُرَبَ أَعَمُّ مِنْ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَجْوِيزُ جَذْبِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِيُصَلِّيَ مَعَهُ، فَإِنَّ خُرُوجَ الْمَجْذُوبِ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ لِلْجَاذِبِ وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ.

وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَا إيثَارَ إذْ حَقِيقَةُ الْإِيثَارِ عَطَاءُ مَا اسْتَحَقَّهُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَمْ يُعْطِ الْجَاذِبَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا رَجَّحَ مَصْلَحَتَهُ لِأَنَّ مُسَاعَدَةَ الْجَاذِبِ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لَيْسَ فِيهَا إعْطَاؤُهُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لِلْمَجْذُوبِ لَوْ لَمْ يُوَافِقْهُ. قَوْلُهُ: (فَتَلَّهُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: أَيْ وَضَعَهُ. وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ: وَضَعَهُ بِعُنْفٍ وَأَصْلُهُ مِنْ الرَّمْيِ عَلَى التَّلِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الْعَالِي الْمُرْتَفِعُ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ رُمِيَ بِهِ وَفِي كُلِّ إلْقَاءٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ التَّلْتَلِ بِلَامٍ سَاكِنَةٍ بَيْنَ الْمُثَنَّاتَيْنِ الْمَفْتُوحَتَيْنِ وَآخِرُهُ لَامٌ وَهُوَ الْعُنُقُ. وَمِنْهُ {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: ١٠٣] : أَيْ صَرَعَهُ فَأَلْقَى عُنُقَهُ وَجَعَلَ جَبِينَهُ إلَى الْأَرْضِ، وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِمَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَقْيِيدَ الْخَطَّابِيِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>