للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[نيل الأوطار]

حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ السَّلَامَ وَقَعَ اثْنَيْنِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ إلَى خَشَبَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَأَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ.

فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ حَكَى الْعَلَائِيّ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِهِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ سَلَّمَ فِي ابْتِدَاءِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَاسْتَبْعَدَهُ وَلَكِنْ طَرِيقُ الْجَمْعِ يُكْتَفَى فِيهَا بِأَدْنَى مُنَاسَبَةٍ، وَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ دَعْوَى تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ، لِأَنَّهُ يَلْزَم مِنْهُ كَوْنُ ذِي الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتَفْهَمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَاسْتَفْهَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحَابَةَ عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلَعَلَّ الرَّاوِي لَمَّا رَآهُ تَقَدَّمَ مِنْ مَكَانِهِ إلَى جِهَةِ الْخَشَبَةِ ظَنَّ أَنَّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لِكَوْنِ الْخَشَبَةِ كَانَتْ فِي جِهَةِ مَنْزِلِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا فَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَرْجَحُ لِمُوَافَقَةِ ابْنِ عُمَرَ لَهُ عَلَى سِيَاقِهِ كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَلِمُوَافَقَةِ ذِي الْيَدَيْنِ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى.

قَوْلُهُ: (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) هُوَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ النِّسْيَانِ وَنَفْي الْقَصْرِ، وَهُوَ مُفَسَّر لِمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ " كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ " وَتَأْيِيدٌ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي: إنَّ لَفْظَ كُلٍّ إذَا تَقَدَّمَ وَعَقِبَهُ نَفْيٌ كَانَ نَفْيًا لِكُلِّ فَرْدٍ لَا لِلْمَجْمُوعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَخَّرَ، وَلِهَذَا أَجَابَ ذُو الْيَدَيْنِ بِقَوْلِهِ: " قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ " كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم.

وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: " بَلَى قَدْ نَسِيتُ " كَمَا ذَكَر الْمُصَنَّفُ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ السَّهْوِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

، وَقَدْ نَقَلَ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ دُخُولِ السَّهْوِ فِي الْأَقْوَالِ التَّبْلِيغِيَّةِ وَخَصَّا الْخِلَافَ بِالْأَفْعَالِ وَقَدْ تُعُقِّبَا. قَالَ الْحَافِظُ: نَعَمْ اتَّفَقَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَقَعُ لَهُ بَيَانُ ذَلِكَ إمَّا مُتَّصِلًا بِالْفِعْلِ أَوْ بَعْدَهُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَفَائِدَةُ جَوَاز السَّهْوِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ بَيَانُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إذَا وَقَعَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ.

وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ السَّهْوَ مُطْلَقًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَمْ أَنْسَ " عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتُهُ وَأَنَّهُ كَانَ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ لِيَقَع مِنْهُ التَّشْرِيعُ بِالْفِعْلِ أَبْلَغَ مِنْ الْقَوْلِ، وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا تَقْرِيرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذِي الْيَدَيْنِ عَلَى قَوْلِهِ: " بَلَى قَدْ نَسِيت " وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ» وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا سَيَأْتِي.

وَمِنْ أَجْوِبَتِهِمْ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَا أَنْسَى، وَلَكِنْ أَنْسَى لِأَسُنَّ» يَدُلّ عَلَى عَدَمِ صُدُورِ النِّسْيَانِ مِنْهُ. وَتُعُقِّبَ بِمَا قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ بَلَاغَاتِ مَالِكٍ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ مَوْصُولَةً بَعْد الْبَحْثِ الشَّدِيدِ وَأَيْضًا هُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا الْمُوَطَّأُ.

وَمِنْ أَجْوِبَتهمْ أَيْضًا حَدِيثُ إنْكَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ قَالَ: «نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: بِئْسَمَا أَنْ يَقُولَ لِأَحَدِكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا وَكَذَا» وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَمِّ إضَافَةِ نِسْيَانِ الْآيَةِ ذَمُّ إضَافَةِ نِسْيَانِ كُلّ شَيْءٍ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>