وإذا قلنا: إن العراق كانت مهوى الأفئدة، ومحط رحال العلماء، حيث بغداد عاصمة دار الإسلام، بل عاصمة الدنيا في ذيّاك الزمان، فما بال خراسان وبلاد المشرق تناصي بغداد وحدها دون مصر؟
والجواب عن ذلك سهل ميسور، يظهر لمن عنده شيء من التأمل في تاريخ أمتنا، يوضح له الحقائق الآتية:
١ - لم تكن بلاد الإسلام على النحو الذي هي عليه الآن من الحدود والسدود، والقيود، وقوانين الجنسية، بل كانت كل بلاد الإسلام داراً واحدة، ينتقل فيها المسلم كيفما شاء، ويستوطن حيثما شاء؛ فلا يصح قياس الغائب على الحاضر، ولا تتصور ما كان على ما هو كائن اليوم.
ب- إن الرحلة في طلب العلم كانت ديدن علمائنا وأئمتنا، ينبغ الواحد منهم حيث نبغ، فيأخذ عن أهل بلده، وعلماء إقليمه، حتى إذا شعر أنه حاز كل ما عندهم انتقل إلى جهة أخرى، يبحث عن جديدٍ فيها، ويعرض ما عنده، ويمتحنه بالمناظرة، فيأخذ ويُعطي، ويظل هكذا يعلم ويتعلم طول حياته.
وليس من الاستطراد أن أقول: إن هذا -الرحلة في طلب العلم واعتبار كل بلاد الإسلام داراً واحدة- ظل إلى عهد قريب، فقد كان الشيخ محمد الخضر حسين شيخاً للأزهر في عام ١٩٥٢ م وهو تونسي الأصل، لم يقل أحدٌ يومها: كيف يتولى مشيخة الأزهر (أجنبي)؟ ومن الطريف أن وكيل الأزهر في أيامه كان الشيخ محمد نور الحسن، وهو (سوداني). تأمل. شيخ الأزهر تونسي، ووكيله سوداني، وأين علماء مصر؟ لم يقل أحد ذلك، بل لم يخطر على بال أحد أن ينظر إلى ذلك.
كان الشيخ محمد الخضر حسين تونسياً، تخرج في الزيتونة، وعمل بالقضاء، ثم التدريس في الزيتونة، ثم انتقل إلى دمشق واستقر بها، ولكنه عاد فشد الرحال إلى مصر، وتقدم للامتحان بالأزهر، فحصل على شهادة العالمية، وأنشأ بمصر جميعة أهلية (جمعية الهداية) ومجلة الهداية، وخاض معارك أدبية وعلمية ضد الشيخ علي عبد الرازق وكتابه: الإسلام وأصول الحكم. وضد طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي).