ثم كان من الجيل الذي يليهم، أخونا المرحوم الدكتور عبد الفتاح الحلو، والصديق الكريم الدكتور محمود محمد الطناحي، برد الله مضجعه (١).
تذكَّر: قلتُ على سبيل المثال.
لم أذكر لك هؤلاء نافلة ولا تزيُّداً، وإنما لتوازن بين أعمالهم، وبين ما تطلع علينا به المطابع الآن من تحقيقات، يهولك منظرها، ويعجبك مرآها، وتقلِّب النص بين يديك، فتجد الفتى قد افتات على مؤلف الكتاب، وأثقل هوامشه إثقالاً بتعليقاتٍ لأدنى ملابسة، (كما يقولون) بل بدون ملابسة، وتجد النص الأصلي ممزقاً في رؤوس الصفحات، مبعثراً بين أرقام الهوامش، وتحاول أن تقرأ النص الذي هو موضوع الكتاب، وعماده ومَعْمُوده، فتجده غير مستقيم، به من خلل التصحيف والسقط ما به، مع فواصل، وعلامات، إن ساعدتك على قراءة النص مرة، تضلّك مرات ومرات، ويكابد الباحث ما يكابد، ويعاني ما يعاني، وهو يتخبط بين الهوامش وفروق النسخ، محاولاً إقامة النص، وفهم مراد المؤلف. وهيهات، هيهات.
لقد كنا نسعد كل السعادة، ونَهشّ ونَبَشّ حينما نسمع أن كتاباً من الأمهات، والمراجع قد طبع، ونقول: منارةٌ قد أضيئت، وطريق مُهّدت، وأقيم عليها الصُّوى.
أما الآن، فكلما سمعنا أن كتاباً قد خرج، نضع أيدينا على قلوبنا، وكم من باحث اشترى كتاباً من الكتب الأمهات المحققة، وذهب به فرحاً مسروراً، وأمضى الليل به حفيا، ولكنه في الصباح أرسل يردُّه إلى مَنْ باعه إياه، ثم أقبل إلى الطبعة القديمة من الكتاب يحنو عليها كالمعتذر لها، عن همه بالاستغناء عنها وهجرها إلى تلك الخلوب!!!
(١) توفي رحمه الله في صباح يوم الثلاثاء، السادس من ذي الحجة (١٤١٩ هـ)، الموافق الثالث والعشرين من مارس (١٩٩٩ م)، توفي فُجاءة، وهو في أوج عطائه، وأقصى توهُّجه، فانْهدّ بموته ركن من أهم أركان الثقافة العربية والإسلامية، وقبر معه علمٌ أي علم، وطويت بموته المدرسة الشاكرية، وقد كان رحمه الله حفياً بهذا الكتاب (نهاية المطلب)، يتمنى أن يراه مطبوعاً، ووجّه للعبد الفقير نداء في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) يحثني على إخراجه، وكم كنتُ أتمنى أن أسعده بإهدائه أول نسخة تخرج من المطبعة.