وهذا يمكن أن نعتبره دليلاً آخر أو قرينة على أن خروج أبي ذرّ إلى الربذة، في خلافة عثمان رضي الله عنهما، كان باختياره رضي الله عنه، وليس نفياً من عثمان، حيث إن الربذة كانت معهودة من أبي ذرّ، ومألوفة لديه. وإن كان الأمر لا يحتاج إلى دليل، بعد أن جاء في حديث البخاري المشار إليه، ما نصه: عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذرّ رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفتُ أنا ومعاوية، في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ٣٤]، فلما قدمت المدينة، كثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: "إن شئت تنحيث، فكنت قريباً" فذلك الذي أنزلني هذا المنزل. فهذا نصٌّ قاطع بأن أبا ذرّ اختار التنحي إلى الربذة باختياره. قال الحافظ في شرح الحديث: "وإذا سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذرّ، وقد بيّن أبو ذر أن نزوله هذا المكان كان باختياره " ا. هـ. بنصه. وهنا إشكال آخر ننبه عليه، وهو أن (الربذة) كما حددها ياقوت ووصفها في معجمه، لم تكن صحراء عديمة الماء، بل هي - كما وصفها: "قرية من قرى المدينة، وكانت من أحسن منزل في طريق مكة، قريبة من ذات عرق" وهي التي كانت حمى لإبل الصدقة، حماها عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه، فكيف يعدم أبو ذرّ فيها الماء؟ والجواب أنه كان يُبعد بغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلباً للكلأ، (ر. تلخيص الحبير: ١/ ١٥٤، فتح الباري: ٣/ ٢٧١ ح ١٤٠٦، ومعجم ما استعجم للبكري، ومعجم البلدان: مادة: ر. ب. ذ).