للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا معنى الإحصان في المقذوف؛ فإن القذف جنايةٌ على العرض، وإنما يكمل العرض عند تجمع هذه الصفات، وغرضُنا من جميعها الكلامُ على العفة من الزنا، فنقول أولاً: إذا زنى الشخص، وثبت زناه بالبيّنة أو بإقراره، فهذا شخص لا عِرْضَ له، وكأن أصل العرض العفةُ من الزنا، وبقية الصفات في حكم التكميل له؛ فإن القذف نسبةٌ إلى الزنا، وإنما يتعيّر بالنسبة إلى الزنا عفيفٌ عنه، فأما الزاني فيخجل (١) من ذكر الزنا، فقال العلماء: من قذف زانياً، لم يستوجب الحد بقذفه. نعم، يستوجب التعزير بإيذائه.

ثم ذكر القاضي أن من زنا مرة واحدة في عنفوان شبابه، ثم تاب وأناب، وصار من أعف خلق الله، وأزهد عباده، فلا حدَّ على من يقذفه، وإن تمادى الزمن، ونيّف على المائة. وكذلك القول فيما إذا زنت مرّةً ثم قُذفت.

وهذا دعوى عريضة، وما أراها تَسْلَمُ عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبةُ تمحو الذنبَ، وتردُّ العدالةَ، وما يخرِم المروءةَ إذا تُرك، عادت المروءة، وانجبر ما كان فيها من خرم، وإذا كنا فسّقنا الرجل لزناه، ثم لما تاب واستبرأناه، قبلنا شهادته وعدَّلناه، فهذا عَوْد إلى الاعتدال والكمال، وما العرض إلا نباهةٌ تسمى الجاه، ولا شك أن من يُخْرَم جاهُه، فقد يعود إلى ما كان عليه (٢)، ولم أر هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.


(١) كذا. ولعلها: لا يخجل.
(٢) جعل إمامُ الحرمين عَوْد الحصانة بالتوبة وصلاح الحال احتمالاً، ولم يجعلها وجهاً، وقد رمز الرافعي إلى كلام إمام الحرمين، ولم يصرّح باسمه، بعد ما قطع بعدم عودة العفة، ونص كلامه: " من زنى مرة، سقطت حصانته، ولم يوصف بالعفة والصلاح بعده، فلا يحد قاذفه، ولكن يعزر للإيذاء، وهذا ظاهر إن قيدَ القذف بالزنا السابق، أو أطلق، فإنه صادق في أنه زنى، فأما إذا قيد القذف بزنا متأخر، فقد استَبعَد سقوطَ الحد مستبعدون، ولم يقيموه مع ذلك وجهاًً " ا. هـ (ر. الشرح الكبير: ٩/ ٣٥٢) وبمثله قال النووي موجزاً (الروضة: ٨/ ٣٢٥).