فإن أراد الرجل أن يسافر لطلب العلم المتعيَّن عليه -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- فلا يحتاج إلى الاستئذان، فإذا كنا لا نعلّق سفرة الحج بالإذن مع أنه يقبل التأخّر، فسفر التعلم فيما لا بد منه أولى بألاّ يفتقر إلى الإذن.
فأما الحظّ الذي يتعلّق من العلم بإفادة الغير، وهو الترقي إلى رتبة المجتهدين، فالتفصيل فيه أنه إن كان في القطر والناحية من يستقل بالفتوى، فخروج الإنسان ليس خروجاً يندرىء به الحرج، فإن الحرج مرفوع باستقلال مُفتي الناحية، فهل يجوز الخروج ليكون هو من جملة المفتين أيضاً من غير إذن الوالدين؟ فعلى وجهين: أصحهما - الجواز؛ فإن الإنسان مطلقٌ لا حجر عليه، فلو حرمنا عليه الخروج دون رضا الوالدين؛ لكان ذلك مفضياً إلى حبسه ومنعه من الانتشار في أرض الله تعالى، سيّما إذا كان يبغي رتبةً شريفة، ودرجة منيفة، والغالب أن نفوس الأبوين لا تطيب بفراق الولد.
وما ذكرناه في سفر الغزو في حكم المخصوص الذي يُتّبع فيه ولا يقاس عليه، وفيه اختصاصٌ بالمصير إلى مصرع الموت، فيكثر لأجل ذلك تحرز الأبوين، وهذا لا يتحقق في سائر الأسفار، هذا إذا كان الخروج بحيث لا ينال من تركه حرج.
فأما إذا كان الفتوى معطلة، فالحرج ينبسط على كل متأخر عن التشمير، فإذا ابتدر من فيه رُشد، وهو يدرأ عن نفسه الحرج، فلا حاجة إلى استئذان الأبوين بلا خلاف، ويلتحق هذا بالعلم المتعيّن. وإن خرج أوْ همّ بالخروج أقوام، وكان هو من الهامين بالخروج، والفوزُ برتبة الفتوى غيبٌ، فلا يُدرى من ينالها، فالأصح أنه لا يحتاج إلى الاستئذان أيضاً، وفيه وجه بعيد أنه لا بدّ من استئذانهما، فإن في الناهضين كثرة، فإذا كان هو أحدَهم، وليس على ثقة من الفوز بالمراد، فقد يظن الظان أن [تنجيز](١) برّ الوالدين أولى.
فانتظم في العلم مراتب: أحدها - الخروج لطلب العلم المتعين، وليس فيه اشتراط الإذن، والثانية - الخروج لنيل رتبة الفتوى، وفي البلد من يستقل بها، وفيه