للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويتصل بهذا المنتهى أمرٌ هو تمام الغرض، وهو أن المسلمين إذا علموا أنهم ولو صابروا لم يُنكوا في الكفار، فلا خلاف في جواز الفرار هاهنا، فانه ليس في الوقوف إلا الاستقتال، وليس يرجع إلى الإسلام من هذا قوةٌ ونُصرة، وإنما التردد فيه إذا غلب على الظن غلبة الكفار، وقد يغلبون، وهذا أصل. قلنا: إذا لم يجدوا الحجارة أصلاً، فإنهم مِزعٌ بين السيوف البواتر، فوقع القطع هاهنا بالفرار.

وتمام غرض الفصل في نجازه.

١١٣٣٧ - ثم إذا منعنا الفرار وحرَّمناه، فلا يمتنع التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة المسلمين، كما قال تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: ١٦]، وأما التحرف للقتال، فمعناه أن يَلقى الكافر مسلماً في الصف، ويكون المجال ضيقاً على المسلم، فرأى في تدبير القتال أن يولّي الكافرَ ظهره ويستجرّه إلى فضاء ومتسع، حتى إذا اتسع مجاله عَكَر (١) عليه، فله أن يفعل ذلك. وكذلك لو تحرّف من الميمنة إلى الميسرة لرأيٍ يراه، فهذا معدود من التحوّل في القتال، وليس من الهزيمة في شيء وتصويره بيّن، وتعليله واضح.

١١٣٣٨ - وأما التحيز، فإنه يرجع إلى القصد وهو متصل بفرار محقق، والتحرّف ليس فراراً، وإنما هو مداورة في القتال.

ثم اختلف طرق الأئمة في التحيز -وهذا من أهم ما يجب الاعتناء به- فذكر الصيدلاني وصاحب التقريب وشيخي وأئمة العراق أن من ولّى، وقصد أن يتحيز إلى فئة، ويستنجد بهم، ويعود إذا عادوا، ففراره على هذا القصد لا يكون معصية، ولا فرق بين أن يكون بين تلك الفئة التي قصد التحيز إليها على مسافة شاسعة، وبين أن تكون قريبة من المعترك، وقال عمر بن الخطاب، وهو في دار الهجرة، يعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى الذي نحن فيه: " أنا فئة كل مسلم " (٢)


(١) يعكُر عليه: من عكر يعكُر عكراً وعكوراً: عطف ورجع.
(٢) أثر عمر: " أنا فئة كل مسلم " رواه الشافعي (الأم: ٤/ ١٧١) والبيهقي في الكبرى: ٩/ ٧٧.