للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهؤلاء حملوا قول الشافعي على ما سنصفه، وقالوا: القاذف في الغالب يقذف ويرى من نفسه أنه قال حقاً، وأظهر ماله إظهارَه، فيرجع ما أطلقه الشافعي من الإكذاب إلى هذا. فيقول: [قد كنت قلتُ، ما قلتُه] (١)، وقد كذبت وأبطلت فيما قدَّمت.

وقال الإصطخري: لا بد وأن يُكذب نفسَه، وإن كان صادقاً. إنه عزّ من قائل قال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: ١٣]، فهذا لقب أثبته الشرع، فيُكْذِبُ القاذف على هذا التأويل نفسَه؛ فإن الشرع سماه كاذباً.

وهذا بعيد لا أصل له، وهذه الآية مع آيٍ أُخَر وردت في قصة الإفك وتبرئة عائشة، وكانت مبرأة عما قذفها به المنافقون.

هذا قولنا في توبة القاذف.

١٢٠٤٠ - فأما القول في استبراء حاله بعد التوبة، فنقول أولاً: من قارف كبيرةً، وتاب لم نبتدر قبولَ شهاته وإن أظهر التوبة؛ فإنا لا نأمن -وهو فاسق- أن يكون ما أظهره هزءاً وعبثاً، أو إظهارَ توبة لغرض له، وهو مضمرٌ الإصرارَ على الغيّ، فلا بد من اختبار حاله بعد التوبة، وهذا هو الذي يسمى الاستبراء، فنتركه ونلقي إليه الأمر، ونراقبه في السر، حتى تظهر مخايلُ صدقه في التوبة؛ فإذ ذاك نحكم بعدالته.

واختلف أصحابنا في مدة الاستبراء، فقال بعضهم: سنة؛ فإن لتكرار الفصول وجريانها مع الاستمرار على التوبة أثراً بيناً في إظهار نقاء السريرة مع حسن السيرة.

وقال قائلون: يعتبر ستة أشهر، حكاه القاضي.

وذهب المحققون إلى الرد على من يُقدِّر، ولفظ الشافعي: استبرأناه أشهراً، والأصح أن ذلك لا يتقدر بزمن، فكيف المطمع فيه، والتقدير لا يثبت إلا توقيفاً، فالوجه أن نقول: نوكل به من يراقبه في سرِّه وعلنه مدة، حتى تحصل غلبة الظن، وهذا يختلف -فيما أظن- باختلاف الرجال والأشخاص، فالرجل المكاتِم الذي


(١) عبارة الأصل: "قد كنت قلت لي وأنا أقول ما قلته".