يقول السائل: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة) ؟
الجواب: هذا الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم وقد رواه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ١/١٤٧ بلفظ: [واختلاف أصحابي لكم رحمة] . ورواه الطبراني والديلمي وغيرهم وقد بين السخاوي حال الحديث في المقاصد الحسنة ص٢٦-٢٧. وكذلك العجلوني في كشف الخفاء ١/٦٤-٦٥. وفصل الشيخ الألباني الكلام عليه حيث قال:[لا أصل له ولقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا حتى قال السيوطي في الجامع الصغير: [ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا] . وهذا بعيد عندي إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده. ونقل المناوي عن السبكي أنه قال:[وليس بمعروف عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع] . وأقره الشيخ زكريا الأنصاري في تعليقه على تفسير البيضاوي (ق٩٢/٢) . ثم إن معنى هذا الحديث مستنكر عند المحققين من العلماء، فقال العلامة ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام ٥/٦٤ بعد أن أشار إلى أنه ليس بحديث:[وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً وهذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١/٧٦. فالحديث ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن معناه صحيح إذا حملناه على الاختلاف في الفروع الفقهية كما قال بعض أهل العلم كما سيأتي. وأما قول الشيخ ابن حزم في رد الحديث دراية:[لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطاً] فغير مسلم لأن كون الاختلاف رحمة لا يعني أن يكون الاتفاق سخطاً كما قال وهذا الكلام من ابن حزم إنما هو أخذ بمفهوم المخالفة وابن حزم لا يأخذ بمفهوم المخالفة أصلا فكيف يحتج به هذا أولاً. وأما ثانياً فقد قال الإمام النووي: [قال الخطابي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اختلاف أمتي رحمة) فاستصوب عمر ما قاله. قال: وقد اعترض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ والآخر معروف بالسخف والخلاعة وهو إسحق بن إبراهيم الموصلي فإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث وزعم أنهم يروون ما لا يدرون وقال هو والجاحظ: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ثم زعم إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فإذا اختلفوا سألوه فبين لهم والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد أنه لا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذاباً ولا يلتزم هذا ويذكره إلا جاهل أو متجاهل وقد قال تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) فسمى الليل رحمة ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذاباً وهو ظاهر لا شك فيه. قال الخطابي: والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكار ذلك كفر والثاني في صفاته ومشيته وإمكارها بدعة والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوهاً فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء وهو المراد بحديث اختلاف أمتي رحمة هذا آخر كلام الخطابي رحمه الله] شرح النووي على صحيح مسلم ٤/٢٥٨. وأما ثالثاً فالاختلاف المذكور هو الاختلاف في الفروع الفقهية والاختلاف فيها ليس فيه حرج ما دام أنه قد صدر عن أهل الاجتهاد. والاختلاف في الفروع موجود منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما حصل في نهاية غزوة الأحزاب عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:(لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) رواه البخاري ومسلم. فقد اختلف الصحابة في ذلك فمنهم من قال إنه أراد منا الإسراع فصلى العصر في الطريق إلى ديار بني قريظة ومنهم من لم يصل العصر إلا في بني قريظة وصلوها بعد أن غابت الشمس ولما عرض الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحداً من الفريقين. كما أن كبار الصحابة قد اختلفوا في مسائل الفروع وهذا أمر مشهور معروف واختلافهم فيه توسعة على الأمة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في مقدمة كتابه العظيم المغني ما نصه:[أما بعد: فإن الله برحمته وطَوْله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتدائهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام. وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام] المغني ١/٣-٤. وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر عن جماعة من فقهاء السلف أن الاختلاف في الفروع فيه سعة فروى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال:[لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ورأى أنه خير منه قد عمله ... وعن القاسم بن محمد قال: لقد أوسع الله على الناس باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء ... وعن رجاء بن جميل قال: اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث قال فجعل عمر يجيء بالشيء مخالفاً فيه القاسم قال وجعل ذلك يشق على القاسم حتى تبين فيه فقال له عمر لا تفعل فما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم ... وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كانوا قولاً واحداً كان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة. قال أبو عمر هذا فيما كان طريقه الاجتهاد ... وعن أسامة بن زيد قال سألت القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ... وعن يحيى بن سعيد قال ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه] جامع بيان العلم وفضله ٢/٨٠. وقال الشيخ شاه ولي الله الدهلوي تحت عنوان اختلاف الصحابة في الأحكام كثير، ما نصه:[وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت في الفجر ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ مما مسته النار ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ثم قال الشيخ الدهلوي: ما كان خلاف الأئمة تعصباً أعمى: ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً. وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد. وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب. وروي أن أبا يوسف ومحمداً كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده. وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدباً معه وقال أيضاً: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق ... وفي البزازية عن الإمام الثاني وهو أبو يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال: إذاً نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً] حجة الله البالغة ١/٢٩٥-٢٩٦. وبعد اختلاف الصحابة والتابعين وتابعيهم اختلف الأئمة والعلماء في فروع الدين وما الاختلاف بين أصحاب المذاهب الأربعة عنا ببعيد. ولا يجوز أن يقال إن اختلاف هؤلاء الفقهاء شر وسخط وعذاب بل فيه السعة والرأفة والرحمة بالأمة. وينبغي أن لا تضيق صدورنا بالخلافات الفقهية فهي أمر تعارف عليه المسلمون منذ الصدر الأول للإسلام بل إن الإمام مالك بن أنس رفض حمل جميع المسلمين على مذهب واحد لما عرض عليه بعض الخلفاء العباسيين أن يحملوا المسلمين على ما قرره مالك في موطئه فرفض حمل الناس على ذلك حباً في التوسعة على المسلمين وعدم التضييق عليهم. قال ابن أبي حاتم:[قال مالك: ثم قال لي أبو جعفر المنصور: قد أردت أن أجعل هذا العلم علماً واحداً فأكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به فمن خالف ضربت عنقه! فقلت له: يا أمير المؤمنين أو غير ذلك قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة وكان يبعث السرايا وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيراً حتى قبضه الله عز وجل ثم قام أبو بكر رضي الله عنه بعده فلم يفتح من البلاد كثيراً ثم قام عمر رضي الله عنه بعدهما ففتحت البلاد على يديه فلم يجد بداً من أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين فلم يزل يؤخذ عنهم كابراً عن كابر إلى يومهم هذا فإن ذهبت تحولهم مما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفراً. ولكن أقر أهل كل بلدة على ما فيها من العلم خذ هذا العلم لنفسك فقال لي: ما أبعدت القول اكتب هذا العلم لمحمد يعني ولده المهدي الخليفة من بعده] أدب الاختلاف ص٣٦-٣٧. ولكن المذموم في الاختلاف في الفروع هو التعصب للرأي وإن ثبت أن هذا الرأي مخالف لما صح عن رسول صلى الله عليه وسلم فالتعصب صفة ذميمة لا ينبغي للمسلم أن يتصف بها. وخلاصة الرأي أن الاختلاف في الفروع لا بأس به وأن فيه توسعة على الأمة ما دام صادراً عن أهل العلم والاجتهاد.