للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٧ - ميراث القاتل خطأ]

يقول السائل: ما قولكم في مسألة توريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول؟

الجواب: اتفق أهل العلم على أن القتل هو أحد موانع الميراث بشكل عام واختلفوا في مسألة القاتل خطأً هل يرث من مال مورثه المقتول خطأً والذي عليه جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء على أن القاتل خطأً لا يرث من مال المقتول ولا من ديته وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن قاتل العمد لا يرث من المقتول شيئاً ... فأما القاتل خطأً فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يرث أيضاً، نص عليه أحمد، ويروى ذلك عن عمر، وعلي وزيد وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وروي نحوه عن أبي بكر رضي الله عنهم. وبه قال شريح وعروة وطاووس وجابر بن زيد والنخعي والشعبي والثوري وشريك والحسن بن صالح ووكيع والشافعي ويحيى بن آدم وأصحاب الرأي وورثه قوم من المال دون الدية، وروي ذلك عن سعيد بن السيب وعمرو بن شعيب وعطاء والحسن ومجاهد والزهري ومكحول والأوزاعي وابن أبي ذئب وأبي ثور، وابن المنذر وداود، وروي نحوه عن علي لأن ميراثه ثابت بالكتاب، والسنة تخصص قاتل العمد بالإجماع، فوجب البقاء على الظاهر فيما سواه. ولنا: الأحاديث المذكورة ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها، كقاتل العمد، والمخالف في الدين، والعمومات مخصصة بما ذكرناه] المغني ٦/٣٦٤-٣٦٥.

وقد خالف في ذلك المالكية وبعض أهل العلم كما سبق في كلام ابن قدامة فقالوا بتوريث القاتل خطأً من مال مورثه المقتول لا من ديته وهذا القول مرجوح لما يلي: ما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس للقاتل شيء وإن لم يكن له وارث فوارثه أقرب الناس إليه ولا يرث القاتل شيئاً) رواه أبو داود وغيره وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود ٣/٨٦٤. وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس لقاتل ميراث) قال صاحب الزوائد: إسناده حسن. سنن ابن ماجة ٢/٨٨٤. وقال الشيخ الألباني عنه حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة ٢/٩٨.

وقد ورد الحديث السابق بطرق كثيرة وهو حديث حسن أو صحيح والقاتل خطأً يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يرث القاتل شيئاً) حيث إن لفظ القاتل لفظ عام فيشمل من قتل عمداً ومن قتل خطأً.

وكذلك فإن الرواية الأخرى للحديث: (ليس لقاتل ميراث) تشمل القاتل خطأً لأن لفظة قاتل نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم فتشمل القاتل خطأً والقاتل عمداً.

ومما يدل على حرمان القاتل خطأً من الميراث ما ورد عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي أنه قتل امرأته خطأً فقال صلى الله عليه وسلم: (اعقلها ولا ترثها) رواه الطبراني.

قال الشوكاني: [وحديث عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي نص في محل النزاع فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ولا ترثها) وكذلك حديث عدي الجذامي الذي أشرنا إليه ولفظه في سنن البيهقي: (إن عدياً كانت له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فذكر له ذلك، فقال له: (اعقلها ولا ترثها) ] نيل الأوطار ٦/٨٥-٨٦. وحديث عدي الجذامي قال عنه الهيثمي: [رواه أبو يعلى بطوله والطبراني باختصار ورجاله رجال الصحيح إلا أن فيه راوٍ لم يسم] مجمع الزوائد٤/٢٣٠.

وحديث عدي الجذامي رواه البيهقي أيضاً وروى غيره بمعناه ثم قال: [هذه مراسيل جيدة يقوي بعضها بعضاً] السنن الكبرى ٦/٢١٩. وروى البيهقي بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [لا يرث القاتل خطأً ولا عمداً] .

وروى أيضاً بإسناده عن علي وزيد وعبد الله قالوا: [لا يرث القاتل عمداً ولا خطأً شيئاً] .

وروى أيضاً بإسناده عن جابر بن زيد قال: [أيما رجل قتل رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً ممن يرث فلا ميراث له منهما، وأيما امرأة قتلت رجلاً أو امرأة عمداً أو خطأً فلا ميراث لها منهما، وإن كان القتل عمداً فالقود إلا أن يعفو أولياء المقتول فإن عفوا فلا ميراث له من عقله ولا من ماله، قضى بذلك عمر بن الخطاب وعلي رضي الله عنهما وشريح وغيرهم من قضاة المسلمين] السنن الكبرى ٦/٢٢٠.

وروى عبد الرزاق بسنده عن أبي قلابة قال: قتل رجل أخاه في زمن عمر بن الخطاب، فلم يورثه، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما قتلته خطأً، قال: لو قتلته عمداً أقدناك به] مصنف عبد الرزاق ٩/٤٠٣.

وروى عبد الرزاق بسنده عن إبراهيم النخعي قال: لا يرث القاتل من الدية ولا من المال عمداً كان أم خطأً] وروى عبد الرزاق أيضاً عن الثوري: [ونحن على ذلك لا يرث على حال] . مصنف عبد الرزاق ٩/٤٠٤.

ومما يرد به على قول المالكية ومن وافقهم في توريث القاتل خطأً أن قولهم فيه تشجيع على القتل فقد يتعمد الوارث قتل مورثه ويدعي أنه قتله خطأً ويصعب إثبات صفة العمد في القتل وقد يحتال في ذلك ويظهر أنه قتله خطأً فمن باب سد الذرائع يجب حرمان القاتل خطأً من الميراث وقاعدة سد الذرائع قاعدة معتبرة عند الأصوليين وتشهد لها قواعد الشرع وأصوله.

واستدل الإمام السرخسي على حرمان القاتل خطأً من الميراث بأن تهمة استعجال الشيء قبل أوانه قائمة في القتل الخطأ فمن الجائز أنه كان قاصداً إلى ذلك وأظهر الخطأ من نفسه فيجعل هذا التوهم كالمتحقق في حرمان الميراث. ويرى السرخسي أيضاً أن القاتل خطأً كما عوقب بالكفارة على قتله فكذلك يعاقب بالحرمان من الميراث. انظر المبسوط ٣٠/٤٧.

ويضاف إلى ما سبق أن دعوى المالكية تخصيص عموم الأدلة الواردة بحرمان القاتل من الميراث وإخراج القاتل خطأً منها دعوى ضعيفة وما اعتمدوا عليه لا يقوى على التخصيص. قال الشوكاني: [ولا يخفى أن التخصيص لا يقبل إلا بالدليل] نيل الأوطار ٦/٨٥.

وما ذكره المالكية من تخصيص القاتل خطأً من العموم استدلالاً بما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة، فقال: (المرأة ترث من دية زوجها وماله. وهو يرث من ديتها ومالها. ما لم يقتل أحدهما صاحبه فإذا قتل أحدهما صاحبه عمداً، لم يرث من ديته وماله شيئاً، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأً، ورث من ماله، ولم يرث من ديته) .

قال في الزوائد: في إسناده محمد بن سعيد، وهو المصلوب. قال أحمد: حديثه موضوع، وقال مرة: عمداً كان يضع. وقال أبو الحاكم: كان يضع الحديث، صلب على الزندقة. وقال الحاكم أبو عبد الله: ساقط بلا خلاف] سنن ابن ماجة ٢/٩١٤.

وقال الشيخ الألباني عن الحديث السابق إنه موضوع أي مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ١٠/١/٢٠٥، ضعيف الجامع الصغير حديث رقم ٥٩٢٦ ص ٨٥٤. فهذا الحديث لا يصلح للاحتجاج به كما ترى من كلام أهل العلم فيه ولا يكون مخصصاً لإخراج القاتل خطأً من عموم حرمان القاتل من الميراث.

وخلاصة الأمر أن القاتل خطأً لا يرث وهذا هو القول الراجح الذي تؤيده الأدلة ومقاصد الشريعة في المحافظة على الأنفس.

<<  <  ج: ص:  >  >>