للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[٧٦ - الضمان]

يقول السائل: إن دابته قد انفلتت من رباطها ليلاً وهربت من مربطها وحطمت في طريقها كمية من البلاط لأحد الجيران فطالبه صاحب البلاط بالتعويض المالي فما الحكم في ذلك؟ الجواب: الأصل عند أهل العلم أن مالك الحيوانات ومن في حكمه هو الضامن إذا كان معها لما تتسبب فيه الحيوانات من جناية على نفس أو مال بضوابط وشروط عند أرباب المذاهب الفقهية

قال الإمام النووي: [إذا كان مع البهيمة شخص ضمن ما أتلفته من نفس ومال سواء أتلفت ليلاً أو نهاراً وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره أو مستأجراً أو مستعيراً أو غاصباً لشمول اليد وسواء البهيمة الواحدة والعدد] روضة الطالبين ٧/٤٠٠.

وأما إذا لم يكن مع البهيمة أحد من مالك وغيره ففي ذلك تفصيل عند العلماء فقد ورد في الحديث عن حرام بن محيصة عن أبيه أن (ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته عليهم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٦٨١. وفي رواية أخرى عن حرام بن محصية الأنصاري عن البراء بن عازب قال: (كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه فَكُلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الألباني في المصدر السابق.

وقال الشافعي عن الحديث أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله التلخيص الحبير ٤/٨٦

والحائط هو البستان إذا كان عليه جدار. عون المعبود ٩/٣٥٠.

وفي رواية أخرى أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه مالك في الموطأ والدارقطني. وحديث البراء يعتبر أصلاً في تضمين أصحاب الحيوانات لما أتلفته حيواناتهم ليلاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) . قال الحافظ ابن عبد البر: [ضامن هنا بمعنى مضمون] الاستذكار ٢٢/٢٥٠.

ومن أهل العلم من يحتج في هذه المسألة بقصة داود وسليمان عليهما السلام في الغنم التي نفشت في الحرث قال تعالى: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّاءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) سورة الأنبياء الآيات ٧٨-٧٩.

قال الشوكاني: [فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عينا أو قيمة وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث] تفسير فتح القدير ٣/ ٤١٨.

وقال الباجي: [فأما فساد الزروع والحوائط والكروم فقال مالك والشافعي وأهل الحجاز في ذلك ما ذكرناه عنهم في هذا الباب. وحجتهم حديث البراء بن عازي المذكور فيه مع ما دل عليه القرآن في قصة داود وسليمان: (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ولا خلاف بين أهل اللغة أن النفش لا يكون إلا بالليل. وكذلك قال جماعة العلماء بتأويل القرآن وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم عند ذكر من ذكر من أنبيائه في سورة الأنعام: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) فجاز الإقتداء بكل ما ورد به القرآن من شرائع الأنبياء. إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من نسخ في الكتاب أو سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك تبين مراد الله فيعلم حينئذ أن شريعتنا مخالفة لشريعتهم فتحمل على ما يجب الاحتمال عليه من ذلك وبالله التوفيق] فتح المالك ٨/٣٤٤-٣٤٥.

وقد قال جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة بتضمين أصحاب المواشي ما أتلفته مواشيهم ليلاً. قال الإمام البغوي: [ذهب إلى هذا بعض أهل العلم أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها وما أفسدت بالليل يضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي يسرحونها بالنهار ويردونها بالليل إلى المراح فمن خالف هذه العادة كان خارجاً عن رسوم الحفظ إلى حد التضييع هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها فإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها أو كانت واقفة وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو فمها وإلى هذا ذهب مالك والشافعي] شرح السنة ٨/٢٣٦

وقال الحافظ ابن عبد البر: [وإنما وجب - والله أعلم - الضمان على أرباب المواشي فيما أفسدت من الزرع وشبهه بالليل دون النهار لأن الليل وقت رجوع الماشية إلى مواضع مبيتها من دور أصحابها ورحالهم ليحفظوها ويمسكوها عن الخروج إلى حرث الناس وحوائطهم لأنها لا يمكن أربابها من حفظها بالليل لأنه وقت سكون وراحة لهم مع علمهم أن المواشي قد آواها أربابها إلى أماكن قرارها ومبيتها وأما النهار فيمكن فيه حفظ الحوائط وحرزها وتعاهدها ودفع المواشي عنها. ولا غنى لأصحاب المواشي عن مشيتها لترعى فهو عيشها فألزم أهل الحوائط حفظها نهاراً لذلك والله أعلم وألزم أرباب الماشية ضمان ما أفسدت ليلاً لتفريطهم في ضبطها وحبسها عن الانتشار بالليل. ولما كان على أرباب الحوائط حفظ حوائطهم في النار فلم يفعلوا كانت المصيبة منهم لتفريطهم أيضاً وتضييعهم ما كان يلزمهم من حراسة أموالهم] الاستذكار ٢٢/٢٥٤-٢٥٥.

ويؤخذ من كلام أهل العلم أن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين إفساد المواشي بالنهار وإفسادها بالليل لأنه بالنهار يمكن التحفظ من الماشية دون الليل فإذا أتلفت بالنهار فالتقصير من أصحاب المزارع في حفظ زروعهم فلا يكون الإتلاف بالنهار موجباً للضمان بخلاف الإتلاف بالليل فإن التقصير يكون من صاحب المواشي فيكون الإتلاف بالليل موجباً للضمان. انظر الضرر في الفقه الإسلامي ١/٣٥٠.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تخصيص حديث ناقة البراء بإتلاف المزروعات فقط ولم يعتبروا إتلاف الحيوانات لغير المزروعات موجباً للضمان قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلاً كان أو نهاراً ما لم تكن يده عليها وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً بالضمان على صاحبها وقرأ شريح: (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهاراً لأنه مفرط بإرسالها. ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جرحها جبار) متفق عليه أي هدر وأما الآية فإن النفش هو الرعي بالليل فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعاً بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه] المغني ٩/١٨٩. وأقول إن هذا تفريق غير مسلَّم فإن الشريعة لا تفرق بين متماثلين وما ذهب إليه شريح القاضي هو الراجح إن شاء الله فتضمينه لصاحب الشاة ما أتلفته من غزل الحائك عملاً بالمعنى الذي أرشد إليه حديث ناقة البراء حيث إن حفظ المال من مقاصد الشريعة وما قضى به شريح رواه عبد الرزاق بسنده عن الشعبي أن شاة وقعت في غزل حوَّاك فاختصموا إلى شريح فقال الشعبي: انظروه فإنه سيسألهم أليلاً وقعت فيه أو نهاراً؟ ففعل ثم قال: إن كان بالليل ضمن وإن كان بالنهار لم يضمن ثم قرأ شريح: (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال: والنفش بالليل والهمل بالنهار. مصنف عبد الرزاق ١٠/٨٢. فلا معنىً للتفريق بين الزروع وغيرها.

وقد وجدتُ إشارات إلى عدم التفرق بين الزروع وغيرها في كلام بعض أهل العلم. قال الإمام النووي: [... وأتلفت زرعاً أو غيره نظر إن أتلفته بالنهار فلا ضمان على صاحبها وإن أتلفته بالليل لوم صاحبها الضمان للحديث الصحيح ... ] روضة الطالبين ٧/٣٩٩. وينبغي أن يعلم أن القول بتضمين أصحاب الحيوانات ما أتلفته حيواناتهم ليلاً إنما يلزمهم الضمان إن قصروا في حفظ حيواناتهم ليلاً أما إن أخذوا بأسباب حفظها فانفلتت بدون تقصير منهم فأتلفت شيئاً فلا ضمان عليهم. قال الإمام النووي: [لو ربط بهيمة وأغلق بابه واحتاط على العادة ففتح الباب لص أو انهدم الجدار فخرجت ليلاً فلا ضمان إذ لا تقصير] روضة الطالبين ٧/٤٠٠.

وخلاصة الأمر أن صاحب الدابة المذكورة في السؤال ضامن لما أتلفته دابته ليلاً إن قصر في حفظها ولم يأخذ بالأسباب الموجبة لذلك فإن لم يقصر فلا ضمان عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>