للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٧٨ - تغير قيمة العملة]

يقول السائل: إنه يعمل في إحدى المؤسسات وإن هذه المؤسسة قد تأخرت في دفع بعض رواتبه لعدة شهور وفي هذه الفترة انخفضت قيمة العملة فهل يجوز له أن يطالب المؤسسة بتعويضه عن انخفاض العملة؟ الجواب: إن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) وفي رواية أخرى: (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي (فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟ مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة؟ وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟ بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كري لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق.

فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد ٥ جزء ٣ ص١٧٢٧-١٧٢٨. وهذا مذهب أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختاره كثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إلك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة ٤/٢٥.

وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع ١٢/١٨٥.

وقال الكاساني: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع ٥/٥٤٢.

وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: [... لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود ٢/٦٠ ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا يجب في الفرق إلا رد المثل بلا زيادة] مجموع الفتاوى ٢٩/٥٣٥.

وقال العلامة الغزي: [أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير. وفي البزازية معزياً إلى المنتقى: [غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها) رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود ص ٨٣ -٨٤.

ويضاف إلى ما سبق أن معظم فقهاء العصر يرون أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها إلا إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً كما ذكرت سابقاً ويرون أن قضاء الديون بقيمتها يعد من الربا المحرم شرعاً [إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص٥٠٠.

وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد ٥ ج ٣/٢٢٦١

ومن المعلوم أيضاً أن المدين ليس له علاقة بانخفاض قيمة العملة حتى نقول بأن عليه أن يدفع الفرق فالمدين غير مسؤول عن ذلك حيث إن تغير قيمة العملة ينتج عن أمور كثيرة سياسية كانت أو اقتصادية أو غير ذلك فلا يصح أن نحمل أحد الطرفين مسؤولية ذلك الانخفاض لأن في تحميل المدين نتيجة الانخفاض رفع للظلم عن الدائن ووضعه على المدين وفي القواعد المقررة شرعاً أن الضرر لا يزال بمثله وكذلك فإن الظلم لا يزال بظلم. كما أن انخفاض قيمة العملة عندما يقع فإنه يصيب الأموال ولو كانت بأيدي أصحابها فمثلاً لو أن الموظف المذكور في السؤال قبض رواتبه من المؤسسة في أوقاتها وادخرها إلى الآن فإن انخفاض قيمة العملة سيؤثر عليها بلا شك فهذا الانخفاض ناتج عن أسباب خارجة عن إرادة الموظف والمؤسسة التي يعمل بها. انظر أحكام صرف النقود ص١٩١-١٩٢.

وخلاصة الأمر أنه لا يجوز للدائن المطالبة بفرق العملة من المدين نتيجة انخفاض قيمة العملة وخاصة أن هذا الانخفاض ليس كبيراً أي لا يتجاوز الثلث الذي اعتبره الفقهاء حداً فاصلاً بين القليل والكثير.

<<  <  ج: ص:  >  >>