قول السائل: أنا رجل موسر وليس لي أولاد ولا بنات ولي إخوة وأخوات وقد كفلت ابن أخي منذ الصغر وعمل معي في تجارتي وأريد أن أوصي له بجميع ما أملك فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: الوصية مشروعة بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ?مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ? سورة النساء ١٢. وقال الإمام البخاري في صحيحه [باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم (وصية الرجل مكتوبة عنده) ، وقول الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة البقرة الآيات ١٨٠-١٨٢. وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت يا رسول الله، أوصي بمالي كله قال: لا. قلت فالشطر قال: لا. قلت الثلث. قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك- أي فمها - وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناسٌ ويضر بك آخرون. ولم يكن له يومئذ إلا ابنة) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ما حقُ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه ما مرت عليًّ ليلةٌ منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي) وغير ذلك من النصوص. وقد اتفق أهل العلم على أنه لا وصية لوارث، لما ثبت في الحديث من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. واتفق العلماء على أنه لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، لما ورد في حديث سعد السابق من قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:(الثلث والثلث كثير) ، وقال الإمام الترمذي بعد أن رواه: [حديث سعد حديث حسن صحيح وقد روي عنه من غير وجه وقد روي عنه «والثلث كبير» . والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثلث ويستحبون أن ينقص من الثلث. قال سفيان الثوري كانوا يستحبون في الوصية الخمس دون الربع، والربع دون الثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئاً لا يجوز له إلا الثلث.] سنن الترمذي ٣/٣٠٦. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(لو غض الناس إلى الربع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير أو كبير) رواه البخاري.
إذا تقرر هذا فإن السائل له ورثة وابن أخيه ليس من الورثة، فيجوز أن يوصي له، ولكن لا يزيد في الوصية عن الثلث، فإن زادت الوصية عن الثلث فتكون الزيادة عن الثلث موقوفة على إجازة الورثة عند جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب والمالكية في قول، فإن أجاز الورثة ما زاد عن الثلث، نفذت الوصية، وإن ردوا الزيادة بطلت. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز وإن لم يجيزوا، رد إلى الثلث، وجملة ذلك أن الوصية لغير الوارث تلزم في الثلث من غير إجازة وما زاد على الثلث يقف على إجازتهم، فإن أجازوه جاز ,، وإن ردوه بطل في قول جميع العلماء، والأصل في ذلك (قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال: أوصى بمالي كله؟ قال: لا قال: فبالثلثين؟ قال: لا قال: فبالنصف؟ قال: لا قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) ، وقوله عليه الصلاة والسلام:(إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند مماتكم) ، يدل على أنه لا شيء له في الزائد عليه، وحديث عمران بن حصين في المملوكين الذين أعتقهم المريض ولم يكن له مال سواهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة وقال له قولاً شديداً يدل أيضا على أنه لا يصح تصرفه فيما عدا الثلث، إذا لم يجز الورثة ويجوز بإجازتهم لأن الحق لهم] المغني ٦/١٤٦.
ولا بد من التنبيه على أمرين هامين يتعلقان بالوصية: أحدهما عدم المضارة في الوصية حيث قال الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} سورة النساء الآية ١٢. قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: {غير مضار} ... فالإضرار راجع إلى الوصية والدين، أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث، فإن زاد فإنه يرد، إلا أن يجيزه الورثة، لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى. وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثاً.] تفسير القرطبي ٥/٨٠. فإذا كان قصد الوارث من الوصية لغير الوارث المُضَارَّة بالوارث وتقليل نصيبه من الميراث، فإن ذلك حرام عليه وهو آثم بهذا القصد، لقوله تعالى:{غير مضار} وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) ثم قرأ أبو هريرة {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح غريب. قال الشوكاني: [الحديث حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ولفظ أحمد وابن ماجة الذي أشار إليه المصنف (أن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وان الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيدخل الجنة) وفيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد، لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة فلا شك أنها من الذنوب التي لا يقع في مضيقها إلا من سبقت له الشقاوة، وقراءة أبي هريرة للآية لتأييد معنى الحديث وتقويته، لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضرار فتكون الوصية المشتملة على الضرار مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية.] نيل الأوطار ٦/٤٢-٤٣.
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(الإضرار في الوصية من الكبائر) رواه سعيد بن منصور موقوفاً بإسناد صحيح، ورواه النسائي ورجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٥/٤٤١.
وقد عدَّ الشيخ ابن حجر المكي الإضرار بالوصية من كبائر الذنوب، انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/٦١٤.
ثانيهما: كتابة الوصية والإشهاد عليها، اتفق الفقهاء على أنه يستحب للمسلم إذا أوصى أن يكتب وصيته لقوله صلى الله عليه وسلم (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة) ، ويستحب للموصي أن يبدأ الوصية بالبسملة، والثناء على الله تعالى بالحمد ونحوه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الشهادتين كتابةً أو نطقاً، ثم الإشهاد على الوصية، لأجل صحتها ونفاذها، ومنعاً من احتمال جحودها وإنكارها. روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، أوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب (إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . الموسوعة الفقهية الكويتية ومما يدل على الإشهاد على الوصية قوله تعالى:{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ} سورة المائدة الآية ١٠٦.
وخلاصة الأمر أنه يجب أن لا تزيد الوصية عن الثلث، فإن زادت عن الثلث فلا بد من إجازة الورثة، وعليه فلا يجوز للسائل أن يوصي بجميع ماله لابن أخيه إلا إذا أجاز ذلك ورثته، ولا يجوز لأحد أن يضار بالوصية، ويستحب كتابة الوصية والإشهاد عليها.