للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٠ - البدء بصيام الستة من شوال يوم جمعة أو يوم سبت]

يقول السائل: إنه قد صام يوم الجمعة الثاني من شوال لهذا العام ونوى أن يصوم الستة من شوال متتابعة ولكن أحد المشايخ أفتاه بأن يفطر لأنه لا يجوز صوم يوم الجمعة ولا يوم السبت وعليه أن يبدأ صوم الستة من شوال يوم الأحد فما قولكم أفيدونا؟ الجواب: إفراد يوم الجمعة بالصوم وكذا إفراد يوم السبت بالصوم مكروه عند جمهور أهل العلم ولكن إن صام يوماً قبلهما أو يوماً بعدهما فلا حرج في ذلك وعليه دلت السنة النبوية فقد روى البخاري بإسناده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ سَأَلْتُ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَالَ نَعَمْ زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمٍ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. رواه البخاري ومسلم.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (قوله (لا يصوم أحدكم) كذا للأكثر وهو بلفظ النفي والمراد به النهي , وفي رواية الكشميهني " لا يصومن " بلفظ النهي المؤكد ... ولمسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يصوم بعده " وللنسائي من هذا الوجه " إلا أن يصوم قبله يوماً أو يصوم بعده يوماً " ولمسلم من طريق هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي , ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام , إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " ورواه أحمد من طريق عوف عن ابن سيرين بلفظ " نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم " , وله من طريق أبي الأوبر زياد الحارثي " أن رجلاً قال لأبي هريرة: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال ها ورب الكعبة ثلاثاً , لقد سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصوم أحدكم يوم الجمعة وحده إلا في أيام معه " وله من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها ".

وهذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر وتؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد ويؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها كمن يصوم أيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة , ويؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلا أو يوم شفاء فلان) فتح الباري ٤/٢٩٦-٢٩٧.

وعن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس؟ قالت لا. قال تريدين أن تصومي غداً؟ قالت لا قال فأفطري. وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها فأفطرت. رواه البخاري.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (واستدل بأحاديث الباب على منع إفراد يوم الجمعة بالصيام , ونقله أبو الطيب الطبري عن أحمد وابن المنذر وبعض الشافعية , وكأنه أخذه من قول ابن المنذر: ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد , وزاد يوم الجمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم فهذا قد يشعر بأنه يرى بتحريمه. وقال أبو جعفر الطبري: يفرق بين العيد والجمعة بأن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد ولو صام قبله أو بعده , بخلاف يوم الجمعة فالإجماع منعقد على جواز صومه لمن صام قبله أو بعده. ونقل ابن المنذر وابن حزم منع صومه عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر , قال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. وذهب الجمهور إلى أن النهي فيه للتنزيه .... واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال: أحدها لكونه يوم عيد والعيد لا يصام , واستشكل ذلك مع الإذن بصيامه مع غيره. وأجاب ابن القيم وغيره بأن شبهه بالعيد لا يستلزم استواءه معه من كل جهة , ومن صام معه غيره انتفت عنه صورة التحري بالصوم. ثانيها لئلا يضعف عن العبادة وهذا اختاره النووي , وتعقب ببقاء المعنى المذكور مع صوم غيره معه , وأجاب أنه يحصل بفضيلة اليوم الذي قبله أو بعده جبر ما يحصل يوم صومه من فتور أو تقصير , وفيه نظر فإن الجبران لا ينحصر في الصوم بل يحصل بجميع أفعال الخير فيلزم منه جواز إفراده لمن عمل فيه خيرا كثيرا يقوم مقام صيام يوم قبله أو بعده كمن أعتق فيه رقبة مثلا ولا قائل بذلك. وأيضا فكأن النهي يختص بمن يخشى عليه الضعف لا من يتحقق القوة , ويمكن الجواب عن هذا بأن المظنة أقيمت مقام المئنة كما في جواز الفطر في السفر لمن لم يشق عليه. ثالثها خوف المبالغة في تعظيمه فيفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت , وهو منتقض بثبوت تعظيمه بغير الصيام , وأيضا فاليهود لا يعظمون السبت بالصيام فلو كان الملحوظ ترك موافقتهم لتحتم صومه لأنهم لا يصومونه. وقد روى أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من الأيام السبت والأحد وكان يقول إنهما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم " رابعها خوف اعتقاد وجوبه , وهو منتقض بصوم الاثنين والخميس ... خامسها خشية أن يفرض عليهم كما خشي صلى الله عليه وسلم من قيامهم الليل ذلك , قال المهلب: وهو منتقض بإجازة صومه مع غيره , وبأنه لو كان كذلك لجاز بعده صلى الله عليه وسلم لارتفاع السبب , لكن المهلب حمله على ذلك اعتقاده عدم الكراهة على ظاهر مذهبه. سادسها مخالفة النصارى لأنه يجب عليهم صومه ونحن مأمورون بمخالفتهم نقلها القمولي وهو ضعيف. وأقوى الأقوال وأولاها بالصواب أولها , وورد فيه صريحاً حديثان: أحدهما رواه الحاكم وغيره من طريق عامر بن لدين عن أبي هريرة مرفوعا " يوم الجمعة يوم عيد , فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم , إلا أن تصوموا قبله أو بعده ". والثاني رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي وقال " من كان منكم متطوعاً من الشهر فليصم يوم الخميس , ولا يصم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر ". فتح الباري ٤/٢٩٧- ٢٩٩

وقال النووي: (باب كراهة صيام يوم الجمعة منفرداً) قوله: (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال: نعم ورب هذا البيت) وفي رواية أبي هريرة: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) . وفي رواية: (لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي , ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام , إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) هكذا وقع في الأصول (تختصوا ليلة الجمعة , ولا تخصوا يوم الجمعة) بإثبات تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني , وهما صحيحان. وفي هذه الأحاديث الدلالة الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم , وأنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق عادة له , فإن وصله بيوم قبله أو بعده , أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء مريضه أبداً , فوافق يوم الجمعة لم يكره ; لهذه الأحاديث. وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه , ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة , وصيامه حسن , وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه , وأراه كان يتحراه , فهذا الذي قاله هو الذي رآه , وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو , والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره , وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة , فيتعين القول به. ومالك معذور ; فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: لم يبلغ مالكاً هذا الحديث , ولو بلغه لم يخالفه , قال العلماء: والحكمة في النهي عنه: أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة: من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار الذكر بعدها ; لقول الله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا) وغير ذلك من العبادات في يومها , فاستحب الفطر فيه , فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط وانشراح لها , والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة , وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة , فإن السنة له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة , فإن قيل: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم قبله أو بعده لبقاء المعنى , فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه , فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهي عن إفراد صوم الجمعة , وقيل: سببه خوف المبالغة في تعظيمه , بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت , وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه , وقيل: سبب النهي لئلا يعتقد وجوبه , وهذا ضعيف منتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد , وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك , فالصواب ما قدمنا. والله أعلم) شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٢٠٩- ٢١١.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد يوم الجمعة بصوم) رواه أحمد.

قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر معظم الأحاديث السابقة: (والنهي إنما هو عن الإفراد فمتى وصلهن بغيره زال النهي) .

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويكره إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يوافق ذلك صوماً كان يصومه، مثل من يصوم يوماً ويفطر يوماً فيوافق صومه يوم الجمعة ومن عادته صوم أول يوم من الشهر أو آخره أو يوم نصفه ونحو ذلك. نص عليه أحمد في رواية الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديث النهي أن يفرد. ثم قال: إلا أن يكون في صيام كان يصومه. وأما أن يفرد فلا قال: قلت: رجل كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فوقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت فصام الجمعة مفرداً؟ فقال: هذا الآن لم يتعمد صومه خاصة إنما كره أن يتعمد الجمعة) المغني ٣/١٧٠.

وقال الشيخ ابن عثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [والصحيح أنه يجوز بدون إفراد يعني إذا صمت معه الأحد أو صمت معه الجمعة فلا بأس والدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لزوجته: أتصومين غداً؟ أي: السبت] الشرح الممتع ٦/٤٦٦.

وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بذلك أيضاً انظر فتاوى اللجنة ١٠/٣٤٧.

وخلاصة الأمر أنه يجوز أن يبدأ صوم الستة من شوال من يوم الجمعة ويصوم السبت أيضا ما دام أنه لم يفرد واحداً منهما بالصوم وكذا يجوز صومهما إن وافقا يوم عاشوراء أو وافقا يوم عرفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>