يقول السائل: وقعت مشاجرة كبيرة بين عدد كثير من الناس وبعد انتهاء الشجار عثر على جثة شخص مقتول، ولم يعرف قاتله، فماذا يترتب على ذلك، أفيدونا؟
الجواب: إن كثرة القتل والتساهل في دماء الناس من علامات الساعة الصغرى كما ورد في الحديث عن أبي وائل قال كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى رضي الله عنهما فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً يُرفع فيها العلم وينزل فيها الجهل ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل) رواه البخاري ومسلم. والهرج: القتل والفتن واضطراب الأمور. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج قالوا وما الهرج قال: القتل) رواه مسلم. ومع الأسف فإن الناس قد تساهلوا في أمر عظيم فصار الإنسان يُقتل لأتفه الأسباب، وصارت حرمة دم المسلم لا قيمة لها، مع أن حرمة دم المسلم من أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى، وقتل النفس المعصومة من أكبر الكبائر، وقد وردت النصوص الكثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى:{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} سورة الإسراء الآية ٣٣. وقوله تعالى:{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} سورة النساء الآية ٩٣. وقال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} سورة الفرقان الآيتان ٦٨-٦٩. وثبت في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم لله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً) رواه البخاري، ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الشيخ ابن العربي قوله: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول] فتح الباري ١٢/٢٣٣. وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:(إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) ، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله (إن من ورطات) بفتح الواو والراء، وحكى ابن مالك أنه قيد في الرواية بسكون الراء، والصواب التحريك وهي جمع ورطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه، وقد فسرها في الخبر بقوله التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها. قوله (سفك الدم) أي إراقته والمراد به القتل بأي صفة كان، لكن لما كان الأصل إراقة الدم عبر به. قوله (بغير حله) في رواية أبي نعيم " بغير حقه " وهو موافق للفظ الآية، وهل الموقوف على ابن عمر منتزع من المرفوع فكأن ابن عمر فهم من كون القاتل لا يكون في فسحه أنه ورط نفسه فأهلكها] فتح الباري ١٢/٢٣٣-٢٣٤. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ... كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول يا رب هذا قتلني حتى يدنيه من العرش) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٣/٤٠. وقد ورد في النصوص أن حرمة دم المسلم مقدمة على حرمة الكعبة المشرفة، بل حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٥٦. وجاء في رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب ٢/٦٢٩. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول:(ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيراً) رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب ٢/٦٣٠. ونظر ابن عمر رضي الله عنه يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي.
إذا تقرر هذا فإنه إذا وجد قتيلٌ بعد مشاجرة ولم يُعرف قاتلُه، أو كان هنالك شكٌ كبيرٌ في معرفة القاتل، فلا يجوز شرعاً اتهام شخص معين بالقتل، والحكم في هذه الحال هو ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من قُتل في عِمِّيَّة، أو رِمِّيَّة بحجر، أو سوطٍ، أو عصا فعقله عقل الخطأ. ومن قتل عمداً فهو قود. ومن حال بينه وبينه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وغيرهم بإسناد قوي كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وقال العلامة الألباني حديث صحيح كما في صحيح سنن النسائي حديث رقم ٤٤٥٦. وقوله (في عِمِّيَّة) بكسر العين وتشديد الميم والياء، وهي الأمر الذي لا يستبين وجهه. وقيل كناية عن جماعة مجتمعين على أمر مجهول لا يعرف أنه حق أو باطل. ونقل الدارقطني عن الإمام أحمد بن حنبل: العِمِّيَّا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه. وقال إسحاق: هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضاً. فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس. وقال ابن الأثير في تفسير اللفظين: المعنى أن يوجد بينهم قتيل يُعمَّى أمرُه، ولا يُتبين قاتلُه فحكمه حكم قتيل الخطأ تجب فيه الدية. النهاية في غريب الحديث ٣/٣٠٥. وروى الدارقطني عن طاووس قال في الرجل يصاب في الرِمِّيا - بكسر وتشديد وقصر، بوزن الهجيرى من الرمي، مصدر يراد به المبالغة - في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة، يودى ولا يُقتل به من أجل أنه لا يُدرى منْ قاتلُه. قال الإمام الصنعاني في شرح الحديث السابق:[ ... إنه دليل على أن من لم يُعرف قاتلُه، فإنها تجب فيه الدية وتكون على العاقلة وظاهره من غير أيمان قسامة، وقد اختلف في ذلك: فقالت الهادوية إن كان الحاضرون الذين وقع بينهم القتل منحصرين لزمت القسامة وجرى فيها حكمها من الأيمان والدية، وإن كانوا غير منحصرين لزمت الدية في بيت المال، وقال الخطابي: اختلف هل تجب الدية في بيت المال، أو لا؟ قال إسحاق بالوجوب، وتوجيهه من حيث المعنى أن مسلمٌ مات بفعل قوم من المسلمين، فوجبت ديته في بيت مال المسلمين، وذهب الحسن إلى أن ديته تجب على جميع من يحضر، وذلك لأنه مات بفعلهم، فلا تتعداهم إلى غيرهم، وقال مالك إنه يهدر؛ لأنه إذا لم يوجد قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وللشافعي قول إنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف، فإن حلف استحق الدية، وإن نكل حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة، وذلك لأن الدم لا يجب إلا بالطلب، وإذا عرفت هذا الاختلاف وعدم المستند القوي في أي هذه الأقوال، وقد عرفت أن سند الحديث قوي كما قاله المصنف علمت أن القول به أولى الأقوال] سبل السلام ٥/٣٨٨. وما رجحه الإمام الصنعاني هو الراجح لقوة دليله، فمن وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يعرف قاتله، ففيه دية قتل الخطأ وتقسم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل، وأمر القاتل إلى الله كما ورد عن عمر بن عبد العزيز أنه كُتب إليه في رجلٍ وجد قتيلاً لم يُعرف قاتله فكتب إليهم أن من القضايا قضايا لا يُحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها. المغني ١٠/٧.
وخلاصة الأمر أن حرمة المسلم حرمة عظيمة، و {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} سورة المائدة الآية ٣٢، وأن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من حرمة الكعبة، وأن تساهل الناس في أيامنا هذه في القتل بغير حق من علامات الساعة الصغرى، وأن من وجد مقتولاً بعد مشاجرة ولا يُعرف قاتلُه، ففيه دية قتل الخطأ وتقسَّم الدية على من حضر الشجار وعلى عواقلهم، ولا يجوز شرعاً تحميل شخص بعينه القتل ما دام أنه لم يثبت أنه قاتل.