يقول السائل: ما قولكم فيما تعارف عليه الناس في بلادنا من فتح بيت العزاء لمدة ثلاثة أيام ليقصده المعزون؟ الجواب: من المعلوم أن التعزية من السنة فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص ١٢٦وغير ذلك من الأحاديث.
وأما الجلوس للتعزية في بيت العزاء ثلاثة أيام كما جرى به عرف الناس في بلادنا فلا بأس به إن خلا من المنكرات والبدع وقد قال بهذا جماعة من أهل العلم وهو قول الحنفية وقول في مذهب الحنابلة والمالكية، فقد قال الكمال ابن الهمام الحنفي [ويجوز الجلوس للمصيبة ثلاثة أيام، وهو خلاف الأَولى] شرح فتح القدير٢/١٥٠
وذكر الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي أنه لا بأس بالجلوس للتعزية في غير مسجد ثلاثة أيام وبين العلامة ابن عابدين أن استعمال لا بأس في كلام الحصكفي على حقيقته لأن الجلوس خلاف الأَوْلى وقد سبق ذلك في كلام ابن الهمام. انظر رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ٢/ ٢٤١. ونقل الطحطاوي عن بعض الحنفية أنه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيام من غير ارتكاب محظور، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٣٣٩
وقال المرداوي الحنبلي:[وعنه الرخصة فيه - أي الإمام أحمد - لأنه عزى وجلس، قال الخلل: سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع ... ] الإنصاف ٢/٥٦٥ وانظر أيضاً حاشية الدسوقي المالكي على الشرح الكبير ١/٤١٩
وقد قال جماعة من العلماء بأن الجلوس للعزاء مكروه واستدلوا على ذلك بما ورد عن جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي الله عنه قال:(كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة) . رواه أحمد وابن ماجة وإسناده صحيح وهذا الأثر لا يدل على منع الجلوس للعزاء وإنما يدل على منع الجلوس مع صنع أهل الميت للطعام فهذان الأمران من النياحة وأما مجرد الجلوس للعزاء فلا يعد من النياحة ويضاف إلى ذلك أنه مع كثرة الناس واتساع المدن والقرى فمن الصعوبة بمكان تعزية أهل الميت دون فتح بيت للعزاء يجلسون فيه ليقصدهم من أراد تعزيتهم وقد كان في الزمن الماضي يمكن تعزية أهل الميت في الطريق أو السوق أو في أي مكان لقيتهم فيه فكيف يمكن أن يتحقق ذلك في المدن الكبيرة وخاصة مع كثرة الناس وانشغالهم في أعمالهم فقد يؤدي القول بمنع الجلوس للتعزية إلى تفويت سنة التعزية ويدل على جواز الاجتماع للتعزية ما رواه البخاري بإسناده عن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن) والتلبينة حساء يصنع من دقيق أو نخالة وربما جعل فيه عسل كما بينه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٩/٦٨١ فهذه عائشة رضي الله عنها كانت النسوة يجتمعن عندها للعزاء
وقال الشيخ صالح آل الشيخ بعد أن ذكر القول بمنع الاجتماع [إن الشيخ عبد العزيز بن باز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام من عزى مصاباً فله مثل أجره، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية. ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعاً فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، ... هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعد من النياحة إلا إذا انضم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعاً ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب (كذا) كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة. فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان إنه أكبر عزاء، أو إنهم اجتمعوا لأجل فلان ... وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمعوا عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة ... ] عن شبكة الإنترنت.
ويجب التنبيه إلى أن الاجتماع للتعزية والجلوس لها يجب أن يخلو من البدع التي يفعلها كثير من الناس وخاصة ما يسمى بقراءة الختمة للأموات فهذه من البدع المنتشرة في بلادنا حيث يجلس مجموعة من الناس بعد دفن الميت فيجلسون بعد صلاة العصر في يوم الوفاة ويومين بعده فيقرؤون السور الأخيرة من القرآن الكريم ابتداءً من سورة الضحى إلى سورة الناس ثم يقرؤون سورة الفاتحة وفواتح سورة البقرة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وبعض الآيات الأخرى ثم يأتون ببعض الأذكار ويهللون مئة مرة ونحو ذلك. وقد يستأجرون بعض المتاجرين بالقراءة على الأموات الذين يحترفون هذا العمل فيحضرونهم ومعهم مكبرات الصوت فيقرؤون الختمة بأجر متفق عليه وبعد الانتهاء يأكلون ما أعد لهم من طعام أو حلويات ويشربون القهوة والشاي وغيرها، ويفعلون هذه البدعة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم الدفن، ثم يفعلونها ثلاثة أيام خميس تالية ثم في الأربعين وبعضهم يفعلها في ذكرى مرور سنة على وفاة الميت وبعضهم يزيد على ذلك. وهذا الأمر بدعة فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضوان الله عليهم فعل مثل ذلك فهذه الختمة طريقة مبتدعة في قراءة القرآن وفي الذكر. ثم إن تخصيص هذه الأوقات وهي ثلاثة أيام من يوم الدفن وثلاثة أيام خميس ويوم الأربعين، بهذه الختمة وهذه الأذكار لم يقم عليه دليل من الشرع ولا يصح عند العلماء تخصيص زمان معين بعبادة معينة إلا بدليل شرعي ولا دليل على ذلك.
وخلاصة الأمر أنه لا بأس بالجلوس للتعزية بشرط أن يخلو ذلك من البدع والمنكرات.