[٣٨ - حكم الاعتراض على خطيب الجمعة]
يقول السائل: كنا في المسجد نستمع لخطيب الجمعة فقام بعض الحضور بالصياح على الخطيب معترضين على ما ذكره في خطبته وأحدثوا تشويشاً وضوضاء فأرجو بيان حكم الاعتراض على خطيب الجمعة أثناء الخطبة؟
الجواب: الإنصات واجب لخطبة الجمعة والكلام محرم أثنائها حتى لو كان الكلام أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر على الصحيح من أقوال أهل العلم وعلى ذلك تدل النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم. قال الإمام النووي: [معناه قلت غير الصواب وقيل تكلمت بما لا ينبغي. ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٣٨
قال الحافظ ابن حجر: [واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من سمعها وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة] فتح الباري ٢/٥٣٣. ومعنى (لغوت) الواردة في الحديث جئت بأمر باطل
وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة " براءة " فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لأبيّ: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أبيّ: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة، فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أبيّ) . ومعنى تجهمني: قطب جبينه وعبس ونظر إليَّ مغضباً، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وقال الشيخ الألباني: صحيح. وجاء في رواية أخرى (فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم جئته فأخبرته فقال: صدق أُبيّ إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ» . رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص ٣٣٨.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل لحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد والطبراني وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إسناده لا بأس به.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه أبو داود وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص ٣٠٥.
وعن عبد الله بن عمرو أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المصدر السابق.
وذكر ابن حزم بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني: (أن علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريه - أي الذي أجَّره الدابة - والإمام يخطب يوم الجمعة فقال له: حسبت القوم قد ارتحلوا فقال له: لا تعجل حتى تنصرف فلما قضى صلاته قال له ابن عمر: أما صاحبك فحمار وأما أنت فلا جمعة لك) المحلى ٣/٢٦٩-٢٧٠.
وغير ذلك من الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. وهذا الأحاديث والآثار تدل على وجوب الإنصات وتحريم الكلام أثناء خطبة الجمعة.
قال الحصكفي الحنفي: [فيحرم أكل وشرب وكلام ولو تسبيحاً أو رد سلام أو أمراً بمعروف بل يجب عليه أن يستمع ويسكت.] الدر المختار شرح تنوير الأبصار٢/١٥٩
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي [ويجب الإنصات من حين يأخذ الإمام في الخطبة فلا يجوز الكلام لأحد من الحاضرين ونهى عن ذلك عثمان وابن عمر. وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب فاقرع رأسه بالعصا وكره ذلك عامة أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة والأوزاعي..] ثم ذكر الشيخ ابن قدامة قول من لم يوجب الإنصات وذكر أدلة الجمهور ثم قال في الجواب عن أدلة المخالف [ ... فتعين حمل أخبارهم على هذا جمعاً بين الأخبار وتوفيقاً بينها ولا يصح قياس غيره عليه لأن كلام الإمام لا يكون في حال خطبته بخلاف غيره وإن قدر التعارض فالأخذ بحديثنا أولى لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ونصه وذلك سكوته والنص أقوى من السكوت] المغني ٢/٢٣٧-٢٣٨.
وقال ابن رشد المالكي في الرد على من لم يوجب الإنصات [وأما من لم يوجبه: فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أي: أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات، وهذا فيه ضعف، والله أعلم، والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم] بداية المجتهد ونهاية المقتصد١/١٢٧.
وينبغي أن يعلم أن فتح باب الاعتراض على خطيب الجمعة إنما هو فتح لباب من أبواب الشر وإن غلفوه بأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخاصة في بلادنا في ظل عدم وجود أي رادع يردع المتهورين ويمنع أصحاب الأهواء من الاعتراض على الخطباء كلما لم يعجبهم أمر يذكره خطيب وإن فتح هذا الباب سيجعل الفوضى والتشويش يعمان المساجد ويلغي حرمة المسجد وهيبة خطبة الجمعة وسيترتب على ذلك منكر أكبر وفتنة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل لذا يجب إغلاق هذا الباب سداً للذريعة المؤدية للفساد.
وخلاصة الأمر أنه يحرم الكلام أثناء خطبة الجمعة وكذا الاعتراض على الخطيب وينبغي لمن أراد أن يعترض على خطيب الجمعة أن يفعل ذلك بعد انتهاء الصلاة.