للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤ - الوكيل أمين ومخالفة شروط الوكالة خيانة للأمانة]

يقول السائل: إنه مقاول بناء وقد اتفق مع صاحب أرض غير مقيم في البلد على أن يبني عمارة في أرضه مقابل أن يعطيه شقتين بمواصفات متفق عليها، وقد وكل المالك الموجود في الخارج قريباً له ليتمم الإجراءات الرسمية، ولكن هذا الوكيل رفض إتمام الإجراءات الرسمية إلا بعد أن يحصل على شقتين مقابل ذلك وبدون علم المالك، أي الموكل، فما الحكم الشرعي في مطلب الوكيل أفيدونا.

الجواب: الوكالة من العقود الجائزة شرعاً على الراجح من أقوال أهل العلم، والتوكيل أن يفوض الشخص التصرف إلى غيره، وسمي الوكيل وكيلاً لأن موكله قد فوض إليه القيام بأمره، فهو موكول إليه الأمر، وعرف الحنفية الوكالة بأنها إقامة الغير مقام نفسه في تصرف جائز معلوم. حاشية ابن عابدين ٤/٤٠٠، وجاء في مجلة الأحكام العدلية المادة رقم (١٤٤٩) : الوكالة هي تفويض أحد في شغل لآخر وإقامته مقامه في ذلك الشغل ويقال لذلك الشخص موكل ولمن أقامه وكيل ولذلك الأمر موكل به. وقد اتفق الفقهاء على أن الوكالة جائزة ومشروعة واستدلوا على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} سورة الكهف الآية ١٩. وبقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} سورة النساء الآية ٣٥. وعن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه) رواه البخاري، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته) رواه أبو داود والدارقطني، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير ٣/٥١. وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة رضي الله عنها وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما) رواه الترمذي وحسنه، وقد أجمع الفقهاء على جواز الوكالة ومشروعيتها منذ عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية ٤٥/٥-٨. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه , فدعت الحاجة إليها.] المغني٥/٢٠١. إذا تقرر هذا فإن العلماء متفقون على أن الوكيل أمين، والواجب شرعاً على الوكيل أن يقوم بتنفيذ الوكالة في الحدود التي أذن له الموكل بها، أو التي قيده الشرع أو العرف بالتزامها، ولا يتصرف الوكيل إلا في حدود ما أذن له فيه موكله. ويجب على الوكيل موافاة الموكل بكل المعلومات الضرورية، ولا يجوز للوكيل التصرف إلا ضمن ما يأذن له الموكل، قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [ولا يحل للوكيل تعدي ما أمره به موكله، فإن فعل لم ينفذ فعله، فإن فات ضمن لقول الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} سورة البقرة الآية ١٩٠. ولقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} سورة البقرة الآية ١٩٤] المحلى٧/٩١. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو من جهة العرف، لأن تصرفه بالإذن، فاختص بما أذن فيه، والإذن يعرف بالنطق تارة، وبالعرف أخرى] المغني ٥/٢٥١. وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ٢٤/٧٢: [الوكيل لا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله من جهة النطق أو جهة العرف، لأن تصرفه بالإذن فاختص بما أذن فيه، وهو مأمور بالاحتياط والغبطة، فلو وكله في التصرف في زمن مقيد لم يملك التصرف قبله ولا بعده، لأنه لم يتناوله إذن مطلقاً، ولا عرفاً لأنه قد يؤثر التصرف في زمن الحاجة إليه دون غيره.] . وبناءً على ما سبق فإن ما قام به الوكيل يعتبر خيانة لمن وكله، لأن الأصل في الوكيل الأمانة كما سبق، وهذا الوكيل قد خان الأمانة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الأنفال الآية ٢٧. وهذه الآية عامة تشمل كل الأمانات كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة كالبراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم قالوا: [الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع] . وقال القرطبي: [وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار] تفسير القرطبي ٥/٢٥٦. وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم. وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) . وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم. وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر١/٦١٧. وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي وقال الإمام البغوي: هذا حديث حسن. شرح السنة ١/٧٥، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة ٣/٤٥٤، وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة حديث رقم ٤٢٤. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا يغرنَّك صلاة امرئ ولا صيامه من شاء صلى ومن شاء صام ولكن لا دين لمن لا أمانة له] شرح السنة ١/٧٥. ويضاف إلى ما سبق أن هذا الوكيل يخفي عن موكله هذه المكاسب التي يريد تحقيقها من الوكالة، وما يكسبه الوكيل بهذه الطريقة يعتبر سحتاً ومن أكل أموال الناس بالباطل، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية ٢٩. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح، وفي رواية أخرى: (كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به) رواه أحمد والطبراني والحاكم وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير ٢/٨٣١. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ... يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني. صحيح سنن الترمذي ١/١٨٩. ون أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة جسد غُذِيَ بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/٣٢٠. وخلاصة الأمر أن الوكيل أمين، ويحرم عليه الكسب غير المشروع الذي سيجنيه من خلال الوكالة وبدون إذن ولا علم موكله وكذلك لا يجوز للمقاول أن يحقق رغبة الوكيل الخائن للأمانة والواجب عليه أن يخبر مالك الأرض بما يحصل. وإن لم يفعل وحقق للوكيل مبتغاه فهو شريك في الإثم.

<<  <  ج: ص:  >  >>