[٤٢ - الحمل والإجهاض]
يقول السائل: ما قولكم فيمن يقول بجواز إسقاط الحمل الناتج عن اغتصاب مهما كان عمر الجنين لأن ذلك من باب الستر على الفتاة البريئة؟
الجواب: لاشك أن الزنا من أفظع الجرائم وتزداد فظاعته في حق الرجل عندما يكون مغتصباً قال الله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} سورة الإسراء الآية ٣٢
والفتاة المغتصبة لا إثم عليها حيث إنها مكرهة لما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.
كما أن المكرهة لا حد عليها قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم روي ذلك عن عمر والزهري وقتادة والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عفي لأمتي عن الخطأ , والنسيان وما استكرهوا عليه) وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه (أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمفدرأ عنها الحد) رواه الأثرم قال: وأتي عمر بإماءٍ من إماء الإمارة , استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء وروى سعيد بإسناده عن طارق بن شهاب: قال: أتي عمر بامرأة قد زنت , فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم عليَّ فخلى سبيلها ولم يضربها، ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه ونص عليه أحمد , في راعٍ جاءته امرأة قد عطشت فسألته أن يسقيها , فقال لها: أمكنيني من نفسك قال: هذه مضطرة وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهأن امرأة استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت , فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها؟ قال: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها.] المغني ٩/٥٩-٦٠.
إذا تقرر هذا فإن الأصل هو تحريم الإجهاض قبل مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل إلا لعذر مشروع على الراجح من أقوال العلماء وأما بعد مضي مئة وعشرين يوماً فقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل؛ لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ...) رواه البخاري. ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط، وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي: [إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص ١٢٣
وجاء في فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية: " من الضروريات الخمس التي دلّت عليها نصوص الكتاب والسنة دلالة قاطعة على وجوب المحافظة عليها وأجمعت الأمة على لزوم مراعاتها حفظ نفس الإنسان وهو في المرتبة الثانية بعد حفظ الدين سواء كانت النفس حملاً قد نفخ فيه الروح أم كانت مولودة ... فلا يجوز الاعتداء عليها بإجهاض إن كانت حملاً قد نفخ فيه الروح أو بإعطائها أدوية تقضي على حياتها وتجهز عليها، طلباً لراحتها أو راحة من يعولها أو تخليصاً للمجتمع من أرباب الآفات والعاهات والمشوهين والعاطلين، أو غير ذلك مما يدفع بالناس إلى التخلص لعموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقّ} وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفساً، يجب صيانتها والمحافظة عليها]
وأما إسقاط الجنين الناتج عن اغتصاب قبل المئة والعشرين يوماً فله وجه شرعي وقال به بعض أهل العلم وخاصة إن خشي قتل الأم بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد السائدة.
وبناءً على ما تقدم يحرم الإجهاض بعد مرور مئة وعشرين يوماً على الحمل بغض النظر عن سبب الحمل هل الحمل حمل شرعي أم حمل ناتج عن زنا برضاً من المرأة والرجل أو كان نتيجة اغتصاب وإكراه؟ ودعوى جواز الإجهاض لستر الفتاة المغتصبة دعوى غير مقبولة شرعاً لما في ذلك من الاعتداء على نفس معصومة وهي الجنين بعد نفخ الروح فيه فما ذنب هذه النفس لتقتل من أجل دفع العار عن أمه ولا شك أن حفظ النفس مقدم على مسألة الستر المدعاة ومن المعلوم أن الإسلام قد شرع كثيراً من الأحكام الشرعية للمحافظة على الجنين فأجاز للحامل أن تفطر في رمضان إذا خافت على نفسها أو جنينها فقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب - رضي الله عنه: [قال أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن ... والعمل على هذا عند أهل العلم. عارضة الأحوذي ٣/١٨٨. وقال الشيخ الألباني: [حسن صحيح] انظر صحيح سنن الترمذي ١/٢١٨. وأجاز الشرع لها أن تؤجل الحج بسبب الحمل وإن حجت فأجاز لها أن تنيب عنها في بعض المناسك كما أن المرأة الحامل من زنا لا يقام عليها الحد حال حملها لما ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال [ ... جاءت امرأة من غامد من الأزد فقالت يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنى فقال آنت قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد وضعت الغامدية فقال إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال إليَّ رضاعه يا نبي الله قال فرجمها) رواه مسلم قال الإمام النووي: [قوله: (فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك) فيه: أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع , سواء كان حملها من زنا أو غيره , وهذا مجمع عليه لئلا يقتل جنينها , وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع] شرح النووي على صحيح مسلم ١١/٢٠١
وخلاصة الأمر أن ما ذكر في السؤال من جواز إجهاض الحمل الناتج عن اغتصاب بغض النظر عن عمر الجنين هو رأي غير صحيح ومخالف لما قرره أهل العلم قديماً وحديثاً.