للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢ - الاعتداء في الدعاء]

يقول السائل: ما معنى الاعتداء في الدعاء، أفيدونا؟

الجواب: الدعاء عبادة عظيمة وحقيقته مناداة الله تعالى لما يريد الداعي من جلب منفعة أو دفع مضرة من المضار أو رفع البلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك واستجلاب لرحمة المولى عز وجل وقد جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مبينة فضله وحاثة عليه ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) سورة غافر الآية ٦٠. وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) سورة الأعراف الآيتان ٥٥-٥٦. وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) سورة البقرة الآية ١٨٦. وجاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدعاء هو العبادة) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٣/١٣٨. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه الترمذي وابن ماجة وقال العلامة الألباني حسن. انظر صحيح سنن الترمذي ٣/١٣٨. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بمأثمٍ أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذاً نكثر، قال: الله أكثر) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ووافقه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٣/١٨١. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبخل الناس من بخل بالسلام وأعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه ابن حبان وأبو يعلى وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم ١٥١٩. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي والحاكم وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم ٦٢٩٠.

إذا تقرر هذا فإن للدعاء أحكاماً وآداباً قد فصلها العلماء في كتبهم ومنها ما ذكره الإمام النووي في كتابه الأذكار ص ٣٤٠- ٣٤٢.

وأما مسألة الاعتداء في الدعاء فد وردت الإشارة إليها في الكتاب والسنة، أما الكتاب ففي قوله تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قال الإمام القرطبي: [يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عاماً] . تفسير القرطبي ٧/٢٢٦. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقوله تعالى (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) عقيب قوله (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) دليل على أنّ من لم يدعه تضرعاً وخفيةً فهو من المعتدين الذين لا يحبهم] مجموع الفتاوى ١٥/٢٤. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب ويسأله بأن يطلعه على غيبه أو أن يجعله من المعصومين أو يهب له ولدا من غير زوجة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضاً في الدعاء وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء بالدعاء مراداً] مجموع الفتاوى ١٥/٢٢. وورد في الحديث (أن سعداً رضي الله عنه سمع ابناً له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شرٍ كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء، بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود حديث رقم ١٣١٣. وورد في الحديث أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال أي بني سل الله الجنة وعُذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء) . رواه ابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم ٣١١٦. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [والاعتداء في الدعاء يقع بزيادة الرفع فوق الحاجة – أي في الصوت - أو بطلب ما يستحيل حصوله شرعاً أو بطلب معصية أو يدعو بما لم يؤثر خصوصاً ما وردت كراهته كالسجع المتكلف وترك المأمور] فتح الباري ٨/٣٧٨. وقال الإمام القرطبي: [والاعتداء في الدعاء على وجوه؛ منها الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك، ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب والسنة، فيتخير ألفاظاً مقفرة وكلمات مسجعة قد وجدها في كراريس لا أصل لها ولا معول عليها، فيجعلها شعاره، ويترك ما دعا به رسوله وكل هذا يمنع من استجابة الدعاء] تفسير القرطبي ٧/٢٢٦. وقد نص أهل العلم على أن من الاعتداء في الدعاء أن يبالغ في تشقيق العبارات في الدعاء مثل من يقول (اللهم ارحمنا إذا ثقل منا اللسان، وارتخت منا اليدان، وبردت منا القدمان، ودنا منا الأهل والأصحاب، وشخصت منا الأبصار، وغسلنا المغسلون، وكفننا المكفنون، وصلى علينا المصلون، وحملونا على الأعناق، وارحمنا إذا وضعونا في القبور، وأهالوا علينا التراب، وسمعنا منهم وقع الأقدام، وصرنا في بطون اللحود، ومراتع الدود) ونحو ذلك من العبارات. وكذلك فإن من الاعتداء في الدعاء السجع المتكلف قال الإمام البخاري: باب ما يكره من السجع في الدعاء، ثم ذكر أثر ابن عباس رضي الله عنه وفيه ( ... وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب) انظر فتح الباري ١١/١٦٦. ومن الاعتداء في الدعاء أن يدعو على غيره ظلماً وعدواناً فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحم) رواه البخاري ومسلم. وكذا إذا دعا الإنسان على نفسه فإن ذلك من الاعتداء في الدعاء فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، فتُوَافِقُوا ساعة فيستجيب الله لكم) رواه مسلم، وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت – أي ضعف ـ فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه) قال نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله لا تطيقه - أو لا تستطيعه - أفلا قلت اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قال فدعا الله له فشفاه.) رواه مسلم. ومن الاعتداء في الدعاء المبالغة في رفع الصوت فعن أبى موسى الشعري رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفاً، ولا نعلو شرفاً، ولا نهبط في وادٍ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَ ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً) رواه البخاري ومسلم. ومعنى قوله (اربعوا) أي ارفقوا. وبالإضافة إلى رفع الصوت فإن تمطيط الكلمات وتقعيرها يعتبر من الاعتداء في الدعاء، قال الفقيه الحنفي الكمال بن الهمام: [ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح والاشتغال بتحريرات النغم إظهاراً للصناعة النغمية لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم إن كان قصده إعجاب الناس به فكأنه قال اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء كما يفعله القراء في هذا الزمان يصدر ممن يفهم معنى الدعاء والسؤال وما ذاك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله وطلبه بتحرير النغم فيه من الخفض والرفع والتطريب والترجيع كالتغني، نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني فاستبان أن ذاك من مقتضيات الخيبة والحرمان] نقله المناوي في فيض القدير ١/٢٩٦.

وخلاصة الأمر أن صور الاعتداء في الدعاء كثيرة كالسجع والصياح وتشقيق الكلام والدعاء بمحال وغيرها وأن خير الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام الغزالي: [والأولى ألا يتجاوز الداعي الدعوات المأثورة، فإنه قد يتعدى في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته] إحياء علوم الدين ١/٣٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>