للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٣٨ - بيع العملات بالهامش (المارجن)]

يقول السائل: إنه بدأ التعامل مع إحدى شركات الوساطة المالية لبيع وشراء العملات في البورصات العالمية بما يعرف بالبيع بالهامش (المارجن) وإن الشركة المذكورة تعتمد على فتوى لمجلس الفتوى الفلسطيني تجيز التعامل المذكور حيث وضعت الفتوى على موقع شركة الوساطة على الإنترنت، فما قولكم في ذلك؟ الجواب: لا بد أولاً من بيان حقيقة ما يسمى البيع بالهامش أو ما يعرف بالمارجن [لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقصد بالشراء بالهامش: شراء العملات بسداد جزء من قيمتها نقداً بينما يسدد الباقي بقرض مع رهن العملة محل الصفقة. والهامش هو التأمين النقدي الذي يدفعه العميل للسمسار ضماناً لتسديد الخسائر التي قد تنتج عن تعامل العميل مع السمسار. وفي هذه المعاملة يفتح العميل حساباً بالهامش لدى أحد سماسرة سوق العملات، الذي يقوم بدوره بالاقتراض من أحد البنوك التجارية - وقد يكون السمسار هو البنك المقرض نفسه- لتغطية الفرق بين قيمة الصفقة وبين القيمة المدفوعة كهامش. مثال ذلك: لنفرض أن عميلاً فتح حساباً بالهامش لدى أحد السماسرة، وضع فيه العميل تأميناً لدى السمسار بمقدار عشرة آلاف دولار. وفي المقابل يُمَكِّن السمسارُ العميلَ بأن يتاجر في بورصة العملات بما قيمته مليون دولار، أي يقرضه هذا المبلغ برصده في حسابه لديه - أي لدى السمسار- ليضارب العميل به، فيشتري بهذا لرصيد من العملات الأخرى كاليورو مثلاً، ثم إذا ارتفع اليورو مقابل الدولار باع اليورو، وهكذا، فيربح العميل من الارتفاع في قيمة العملة المشتراة.] عن الإنترنت

إن ما يتم في البورصات العالمية من بيع وشراء للعملات المختلفة مخالف في أغلبه لقواعد الصرف المعروفة عند الفقهاء وأهمها التقابض في مجلس العقد، فقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من المتعاقدين في مجلس العقد قبل افتراقهما. قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] المغني٤/٤١. ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم. فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد) حجة للعلماء كافة في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس] شرح النووي على صحيح مسلم ٤/١٩٩.

وإذا تأملنا مسألة البيع بالهامش (المارجن) وجدناها قد أخلت بهذا الشرط المتفق عليه بين العلماء فلا يوجد فيه قبض لا حقيقي ولا حكمي، وقد ظن بعض المفتين أن تسجيل العملية في قيد المتعامل لدى شركة الوساطة هو قبض حكمي، وهذا ظن خاطئ لأنه يوجد ما يسمى بالتسوية المالية (Settlement) أو ما يعرف بنظام (السبوت SPOT) وهذه التسوية لا تكون إلا بعد يومي عمل على أقل تقدير وقد تزيد عن ذلك [مع مراعاة أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق وهي: السبت والأحد في أوروبا وأمريكا والجمعة في الشرق الأوسط. ويترتب على ذلك أنه إذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة أوروبية يوم الجمعة فسيكون التسليم الفعلي يوم الثلاثاء بإهدار يومي السبت والأحد لأنهما عطلة رسمية في أوروبا وأمريكا. وإذا تم تبادل بين عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة شرق أوسطية يوم السبت فسيكون التسليم الفعلي يوم الأربعاء بإهدار أيام الجمعة والسبت والأحد؛ لأنها أيام عطلة في الشرق الأوسط فكأن العملية تمت يوم الإثنين فيكون التسليم يوم الأربعاء بعد يومي عمل، وما يحدث يوم التعاقد هو تسجيل للعملية فقط] ويقول الشيخ الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم (باحث في الاقتصاد الإسلامي من علماء المملكة العربية السعودية) : [هناك فرق بين إجراء البيع والشراء وبين التسوية، فإجراء العقد يتم في ثوان كما أشار الأخ الكريم. أما التسوية (settlement) ، فهي تعني دخول المبلغ في حساب المشتري، ودخول العوض في حساب البائع، بحيث يمكن لكل طرف أن يتصرف في المبلغ لمصلحته الخاصة بالسحب وغيره، وبهذا يتحقق التقابض بين الطرفين. لا يوجد حتى الآن في سوق العملات الدولية تقابض أو تسوية فورية تتم في لحظة إنجاز العقد، بل يتأخر التقابض لمدة يومين (ويشار إليه بـ (T+٢) أو أكثر. في بعض الحالات يمكن للمتعامل اشتراط أن تتم التسوية في نفس اليوم (T+٠) لكن الأصل هو التأخر.] إذن يوجد فرق بين تسجيل العملية في قيد المتعامل وبين التسوية وعليه فإن من يشتري عملة فإنه لا يستطيع سحبها من حسابه قبل عملية التسوية وإن كانت قد سجلت في قيده لدى شركة الوساطة، وبالتالي لا يجوز له بيعها إلا بعد عملية التسوية. وما ورد في الفتوى المشار إليها [ولا يتم بيع أو شراء العملة إلا إذا ملكها المتعامل عن طريق تسجيلها في حسابه عبر الوسائل الحديثة ويتسلم المتعامل مستندات خاصة بكل عملية بيع وشراء بسرعة فائقة عبر وسائل الاتصالات الحديثة، هذا التسجيل في حساب المتعامل أو تسلم المستندات يعتبر في الفقه الإسلامي قبضاً حكمياً للعملة المشتراة أو المباعة فالبيع والشراء بعد القبض الحكمي لا ربا فيه لأن البائع والمشتري يملكان البدلين عند العقد ويتم تسليمها في مجلس العقد هذا ما يتفق مع شروط الصرف الصحيح] وأقول إن هذا الكلام غير صحيح فقهاً، لأنه لا يتم القبض الحكمي في العملية المذكورة إلا بعد التسوية وليس بمجرد التسجيل في حساب المتعامل كما ورد في الفتوى. وكذلك فإن الفتوى المذكورة قد أغفلت قضية هامة عندما ذكرت أن [التمويلات أو التسهيلات المالية والتي هي عبارة عن حساب جارٍ مدين يمنحه البنك للمتعامل لحساب ما يحتاجه لشراء العملات وبيعها هي عبارة عن إذن من البنك للمتعامل بالتصرف في هذا المبلغ وما يسحبه المتعامل أو وكيله هو قرض ويسجل في حساب المتعامل على أنه مدين والقرض في الشريعة الإسلامية مشروع ما دام البنك لا يتقاضى شيئاً على التمويل أو التسهيلات المالية ... ] أقول لو سلمنا بأن هذا القرض بدون فوائد فإنه قرض يجر نفعاً وهو أن البنك يشترط أن يكون التعامل عن طريقه وبهذا يكون قرضاً جرَّ نفعاً وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم. كما أن الفتوى المذكورة قد خالفت ما اتفقت عليه المجامع الفقهية المعتبرة من تحريم التعامل بالمارجن كما ورد في فتوى المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من ١٠-١٤/٣/١٤٢٧هـ، الذي يوافقه ٨-١٢إبريل ٢٠٠٦م، قد نظر في موضوع: (المتاجرة بالهامش) ، والتي تعني: (دفع المشتري] العميل [جزءاً يسيراً من قيمة ما يرغب شراءه يسمّىهامشاً، ويقوم الوسيط مصرفاً أو غيره، بدفع الباقي على سبيل القرض، على أن تبقى العقود المشتراة لدى الوسيط، رهناً بمبلغ القرض) . وبعد الاستماع إلى البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، رأى المجلس أن هذه المعاملة تشتمل على الآتي: (١) المتاجرة (البيع والشراء بهدف الربح) ، وهذه المتاجرة تتم غالباً في العملات الرئيسة، أو الأوراق المالية (الأسهم والسندات) ، أو بعض أنواع السلع، وقد تشمل عقود الخيارات، وعقود المستقبليات، والتجارة في مؤشرات الأسواق الرئيسة. (٢) القرض، وهو المبلغ الذي يقدمه الوسيط للعميل مباشرة إن كان الوسيط مصرفاً، أو بواسطة طرف آخر إن كان الوسيط ليس مصرفاً. (٣) الربا، ويقع في هذه المعاملة من طريق (رسوم التبييت) ، وهي الفائدة المشروطة على المستثمر إذا لم يتصرف في الصفقة في اليوم نفسه، والتي قد تكون نسبة مئوية من القرض، أو مبلغاً مقطوعاً.

(٤) السمسرة، وهي المبلغ الذي يحصل عليه الوسيط نتيجة متاجرة المستثمر (العميل) عن طريقه، وهي نسبة متفق عليها من قيمة البيع أو الشراء. (٥) الرهن، وهو الالتزام الذي وقعه العميل بإبقاء عقود المتاجرة لدى الوسيط رهناً بمبلغ القرض، وإعطائه الحق في بيع هذه العقود واستيفاء القرض إذا وصلت خسارة العميل إلى نسبة محددة من مبلغ الهامش، ما لم يقم العميل بزيادة الرهن بما يقابل انخفاض سعر السلعة.

ويرى المجلس أن هذه المعاملة لا تجوز شرعاً للأسباب الآتية:

أولاً: ما اشتملت عليه من الربا الصريح، المتمثل في الزيادة على مبلغ القرض، المسماة (رسوم التبييت) ، فهي من الربا المحرم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة: ٢٧٨-٢٧٩) .

ثانياً: أن اشتراط الوسيط على العميل أن تكون تجارته عن طريقه، يؤدي إلى الجمع بين سلف ومعاوضة (السمسرة) ، وهو في معنى الجمع بين سلف وبيع المنهي عنه شرعاً في قول الرسول ?: " لا يحل سلف وبيع ... " الحديث رواه أبو داود (٣/٣٨٤) والترمذي (٣/٥٢٦) وقال: حديث حسن صحيح. وهو بهذا يكون قد انتفع من قرضه، وقد اتفق الفقهاء على أن كل قرض جر نفعاً فهو من الربا المحرم.

ثالثاً: أن المتاجرة التي تتم في هذه المعاملة في الأسواق العالمية غالباً ما تشتمل على كثير من العقود المحرمة شرعاً، ومن ذلك:

١. المتاجرة في السندات، وهي من الربا المحرم، وقد نص على هذا قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (٦٠) في دورته السادسة.

٢. المتاجرة في أسهم الشركات دون تمييز، وقد نص القرار الرابع للمجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة سنة ١٤١٥هـ على حرمة المتاجرة في أسهم الشركات التي غرضها الأساسي محرم، أو بعض معاملاتها ربا.

٣. بيع وشراء العملات يتم غالباً دون قبض شرعي يجُيز التصرف.

٤. التجارة في عقود الخيارات وعقود المستقبليات، وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم (٦٣) في دورته السادسة، أن عقود الخيارات غير جائزة شرعاً، لأن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه.. ومثلها عقود المستقبليات والعقد على المؤشر.

٥. أن الوسيط في بعض الحالات يبيع ما لا يملك، وبيع ما لا يملك ممنوع شرعاً. رابعاً: لما تشتمل عليه هذه المعاملة من أضرار اقتصادية على الأطراف المتعاملة، وخصوصاً العميل (المستثمر) وعلى اقتصاد المجتمع بصفة عامة. لأنها تقوم على التوسع في الديون، وعلى المجازفة، وما تشتمل عليه غالباً من خداع وتضليل وشائعات، واحتكار ونجش وتقلبات قوية وسريعة للأسعار، بهدف الثراء السريع والحصول على مدخرات الآخرين بطرق غير مشروعة، مما يجعلها من قبيل أكل المال بالباطل، إضافة إلى تحول الأموال في المجتمع من الأنشطة الاقتصادية الحقيقية المثمرة إلى هذه المجازفات غير المثمرة اقتصادياً، وقد تؤدي إلى هزات اقتصادية عنيفة تلحق بالمجتمع خسائر وأضراراً فادحة. ويوصي المجمع المؤسسات المالية باتباع طرق التمويل المشروعة التي لا تتضمن الربا أو شبهته، ولا تحدث آثاراً اقتصادية ضارة بعملائها أو بالاقتصاد العام كالمشاركات الشرعية ونحوها، والله ولي التوفيق.] عن الإنترنت

وخلاصة الأمر أن بيع وشراء العملات عن طريق ما يسمى بالبيع بالهامش (المارجن) محرم شرعاً، وأدعو مجلس الفتوى الموقر إلى إعادة النظر في فتواه المذكورة والمؤرخة في ١٢/٦/٢٠٠٦، والتي تستغل من الطامعين بالثراء السريع من المضاربين بالعملات، مع العلم أن هذه المضاربات لا تعود بأي نفع على الاقتصاد المحلي، ولولا ضيق المقام لفصلت الكلام في هذه المسألة.

<<  <  ج: ص:  >  >>