[١٢ - لا يملك ولي الأطفال أو وصيهم التنازل عن دية والدهم]
قول السائل: قُتل شخصٌ خطأً في حادث شجار وترك خمسة أطفال وزوجة، وعند إقامة مراسم الصلح مع عائلة القاتل قام عم الصغار وأعلن تنازل عائلة المقتول عن الدية إكراماً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما الحكم الشرعي في التنازل عن الدية، أفيدونا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن موجب القتل الخطأ أمران: أولهما الدية والثاني الكفارة ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) سورة النساء الآية ٩٢. والدية الشرعية تقدر بألف دينار ذهبي وتساوي في أيامنا هذه أربعة آلاف ومئتان وخمسون غراماً من الذهب، وأما الكفارة فهي صيام شهرين متتابعين نظراً لفقدان الرقاب في أيامنا هذه، حيث إن كفارة القتل على الترتيب وليست على التخيير. ويجب أن يعلم أن الدية حق لجميع ورثة المقتول، ويجري عليها ما يجري على التركة، فتوزع دية المقتول على ورثته، فالدية موروثة كسائر الأموال التي كان يملكها القتيل حال حياته، يرثه فيها ورثته حسب نصيبهم الشرعي. فقد ورد عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه كان يقول:[الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الإمام الترمذي:[هذا حديث حسنٌ صحيحٌ والعمل على هذا عند أهل العلم] وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ٢/٦١. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم:(قضى أن العقل - أي الدية - ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٩٨. وعن جابر رضي الله عنه قال:(جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية على عاقلة القاتلة فقالت عاقلة المقتولة: يا رسول الله ميراثها لنا. قال: لا. ميراثها لزوجها وولدها) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٩٩. فهذه الأحاديث تدل على أن الدية موروثة كسائر الأموال، قال الإمام البغوي بعد أن ذكر حديث توريث امرأة أشيم الضبابي من ديته:[وفيه دليل على أن الدية تجب للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته كسائر أملاكه وهذا قول أكثر أهل العلم] شرح السنة ٨/٣٧٢. إذا تقرر هذا فإن الولي أو الوصي أو كبير العائلة أو مختارها أو شيخ القبيلة أو غيرهم لا يملكون التنازل عن حقوق الصغار في دية أبيهم المقتول، وهذا التنازل باطلٌ شرعاً، لأن الصغير نفسه وهو صاحب الحق لا يملك هذا التصرف شرعاً، حتى لو أجازه وليه أو وصيه، وكذلك الولي أو الوصي لا يملكان هذا الحق ابتداءً، ورد في الموسوعة الفقهية: [ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه ليس للوصي أن يتبرع بمال الصغير سواء أكان بالصدقة أم بالهبة بغير عوض أم بالمحاباة، لأن التبرع بمال الصغير لا حظ له فيه، وأنه ينافي مقصود الوصاية من الحفاظ على المال وتنميته والتصرف بما فيه نفعٌ يعود على الصغير، مستندين في ذلك إلى قوله تعالى:{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} فقد نهى عن قربان مال اليتيم إلا بما فيه مصلحة له، والتبرع بالمال لا مصلحة لليتيم فيه، بل هو تصرفٌ في ماله على غير الوجه الذي أمر الله به، فيكون ممنوعاً ومنهياً عنه، ولقوله عليه الصلاة والسلام:(لا ضرر ولا ضرار) - رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم ٢٥٠ -، ولقوله عليه الصلاة والسلام:(ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) - رواه أحمد والحاكم وقال العلامة الألباني حديث حسن، كما في صحيح الترغيب والترهيب ١/١٥٢- والإضرار بالصغير ليس من المرحمة في شيء، فليس له أن يهب مال الصغير من غيره بغير عوض، لأنه إزالة ملكه من غير عوض فكان ضرراً محضاً، وليس له أن يتصدق بماله ولا أن يوصي به، لأن التصدق والوصية إزالة الملك من غير عوض مالي فكان ضرراً فلا يملكه] الموسوعة الفقهية الكويتية ٤٣/١٩٨- ١٩٨. وجاء أيضاً في الموسوعة الفقهية في بيان حكم عقود الوصي وتصرفاته:[القاعدة العامة في عقود الوصي وتصرفاته: أن الوصي مقيد في تصرفه بالنظر والمصلحة لمن في وصايته، وعلى هذا لا يكون للوصي سلطة مباشرة التصرفات الضارة ضرراً محضاً كالهبة، أو التصدق، أو البيع والشراء بغبن فاحش، فإذا باشر الوصي تصرفاً من هذه التصرفات كان تصرفه باطلاً، لا يقبل الإجازة من أحد، ويكون له سلطة مباشرة التصرفات النافعة نفعاً محضاً، كقبول الهبة والصدقة والوصية والوقف، والكفالة للمال. ومثل هذا: التصرفات الدائرة بين النفع والضرر كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشركة، فإن للوصي أن يباشرها، إلا إذا ترتب عليها ضررٌ ظاهر، فإنها لا تكون صحيحة ... ولا يجوز للوصي باتفاق الفقهاء أن يهب شيئاً من مال الصغير ومنْ في حكمه، ولا أن يتصدق، ولا أن يوصي بشيء منه، لأنها من التصرفات الضارة ضرراً محضاً، فلا يملكها الوصي، ولا الولي ولو كان أباً. وكذلك لا يجوز له أن يقرض مال الصغير ونحوه لغيره، ولا أن يقترضه لنفسه، لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار، والوصي مأمور بتنميته بقدر الإمكان.] الموسوعة الفقهية الكويتية ٧/٢١٣، ٢١٥. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال، لأنه لا يملك إسقاط حقه] المغني ٩/٤٧٦. وقال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في جواب السؤال التالي:[حصل حادثٌ على رجل، وعلى إثر ذلك انتقل الرجل إلى رحمة الله، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وقد حصل الحادث على الرجل من خلف سيارته التي يقودها، وبمناسبة أن الرجل المتوفى له أولاد وأعتقد أنهم قُصَّر، وقد حصلت محاورة بين أقربائه البعض منهم يرغب التنازل عن الرجل الذي صدم الرجل المتوفى من الخلف، والبعض منهم يرغبون دية يضعونها ويصرفون منها على الأولاد، والبعض منهم يقولون نبني له مسجداً ونحفر له بئراً بأرض فلاة ويكون الأجر له والبعض يقولون نأخذ الدية ونتصدق بها إذا حكم بها شرعاً، ويكون الأجر للمتوفى، وجهونا حول أحسن الطرق، هل هو العفو أو ما ذكرنا؟ الجواب: إذا كان المتوفى له أولاد صغار، أو أولاد مجانين، أو غير مرشدين، لم يجز العفو، بل يجب على وليهم أن يأخذ الدية، ويحفظها لهم ويصرفها في مصالحهم، ولا يجوز العفو لوليهم عن الدية، أما إذا كان الورثة مرشدين ليس فيهم قاصر، وأحبوا أن يسمحوا، فلا حرج عليهم، أو أحبوا أن يضعوها في تعمير مسجد، أو في حفر بئر بفلاة مع المسلمين، أو في صدقة على الفقراء، أو مساعدة المجاهدين كل هذا لا بأس به، هم أحرار؛ لأنهم مرشدون يتصرفون كيف شاءوا، والأولى أن يأخذوها، لا يسمحوا بها للصادم، حتى لا يتساهل الناس في الصدم والتعدي على الناس، الذي ينبغي أن يأخذوا الدية، ثم يتصرفوا فيما يرون إذا كانوا مرشدين، إما توزعوها بينهم، ويتصرفوا بها، وإما صرفوها في جهة بر كتعمير مسجد، أو صدقة على الفقراء، أو صرفها للمجاهدين في سبيل الله، أو نحو ذلك، أما إذا كانوا غير مرشدين، أو فيهم من هو ليس مرشد، فلا يجوز لولي القاصر أن يسمح في شيء منها، سواء كان القاصر صغيراً، أو معتوهاً، أو مجنوناً، أو سفيهاً، ليس لوليه أن يسمح، بل يجب أن يأخذ حقه من الدية ويحفظها للقاصر، حتى ينفق عليه منه، أو يصرفها في مصالحه كتعمير عقاره، وغير ذلك.] موقع الشيخ على شبكة الإنترنت. ويضاف إلى ما سبق أن تنازل عم الصغار عن الدية فيه مصادرة لحق الزوجة في نصيبها من دية زوجها، وهو حق ثابت كما سبق في الحديث حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
وخلاصة الأمر أن الأطفال لا يملكون إسقاط حقهم في دية والدهم لأنهم فاقدون لأهلية ذلك، وكذلك حق الزوجة في نصيبها من دية زوجها لا يسقط إلا بإرادتها ورضاها واختيارها، والأولياء والأوصياء ومن في حكمهم لا يملكون إسقاط حق الصغار في دية والدهم، وإن حصل هذا الإسقاط فهو باطل شرعاً، وبناءً على ما سبق يظهر لنا مدى الظلم الذي يلحق بأطفال المقتول عندما يتم الصلح برعاية القضاء العشائري ويتم إسقاط الدية والتنازل عنها إكراماً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وأي إكرام هذا الذي يكون بما لا يملكونه، ومن يريد أن يكرم فإنه يكرم بما يملك، ولا يكرم بمال غيره، بل هذا ظلم لا يقره دين الإسلام، فهذا الإسقاط للحقوق صدر عمن لا يملكه، فهو تصرف محرم شرعاً وباطل لا يترتب عليه أي أثر، وللصغار عند البلوغ أن يطالبوا بحقوقهم في دية والدهم والحقوق لا تسقط بالتقادم.