للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٤ - إبرار المقسم]

يقول السائل: حلف شخصٌ يميناً عليَّ أن أفعل فعلاً معيناً، ووقعت في الحرج لأنه حلف عليَّ ولم يكن لي رغبة أن أفعل ما حلف، فماذا يترتب عليَّ؟

الجواب: تسمى هذه المسألة عند أهل العلم مسألة إبرار المقسم، وهي أن تفعل ما أراده الحالف لتصير بذلك باراً بيمينه، وهذه المسألة فيها تفصيل عند العلماء:

١ - فإذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً واجباً كأن يصلي الظهر مثلاً، فعلى المحلوف عليه أن يبر بيمين الحالف، وكذلك إذا حلف عليه أن يترك معصية فيجب عليه أن يبر بيمينه.

٢ - وأما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يترك واجباً أو أن يفعل معصية، فيجب على المحلوف عليه أن يحنث بيمين الحالف لأنه لا طاعة إلا في المعروف، لما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا طاعة في معصية الله) رواه البخاري ومسلم.

٣ - أما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً مباحاً أو مندوباً إليه، فيندب إبرار المقسم في هذه الحالة، كمن حلف على آخر أن يتغدى عنده في بيته، فيندب إبرار المقسم، وقد ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم الذهب أو أن نتختم بالذهب وعن شربٍ بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.

قال الإمام النووي: " وأما إبرار المقسم فهو سنة أيضاً مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو ضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيءٌ من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فقال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني، فقال: (لا تقسم ولم يخبره) " شرح النووي على صحيح مسلم ١٤/٣٢. وقال الشوكاني مبيناً الأمر بإبرار المقسم ليس على سبيل الوجوب: " قوله (وإبرار المقسم) ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة صارفة عن الوجوب، وعدم إبراره صلى الله عليه وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكونه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان عدم الوجوب.... " نيل الأوطار ٨/٢٦٢.

وقد ثبت في أحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبر المقسم كما في الحديث الشريف (أن ابنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة وسعد وأبيّ، أن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده مسمى، فلتصبر وتحتسب، فأرسلت إليه وتقسم عليه، فقام وقمنا معه، فلما قعد رفع إليه فأقعده في حجره ونفس الصبي تقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عند البخاري: (تقسم عليه ليأتينها) فبرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقسم ابنته فذهب إليها. وجاء في الحديث عن مجاهد قال: (كان رجل من المهاجرين يقال له عبد الرحمن بن صفوان وكان له بلاء في الإسلام حسن وكان صديقاً للعباس، فلما كان فتح مكة، جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال: إنها لا هجرة فانطلق إلى العباس وهو في السقاية فقال: يا أبا الفضل، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يبايعه على الهجرة فأبى، قال: فقام العباس معه وما عليه رداء، قال: فقال يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لا هجرة، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه، قال: فبسط رسول الله يده، قال: فقال له: هات أبررت قسم عمي ولا هجرة) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة، وفي سنده ضعف. وذكر الشيخ ابن قدامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أبرَّ قسم عمه العباس وأجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه حقيقةً لتعذر المعنى الحقيقي " انظر المغني ٩/٥٣٥.

وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدت إليها امرأة تمراً في طبق فأكلت بعضاً وبقي بعض فقالت: أقسمت عليك إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبريها، فإن الإثم على المحنث) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد ٤/١٨٣. والمحنث هو المتسبب في الحنث فيكون الإثم عليه. وجاء في الحديث عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) رواه ابن ماجة. وعن أبي حازم أن (ابن عمر مرَّ على رجل ومعه غنيمات له فقال: بكم تبع غنمك هذه بكذا وكذا، فحلف ألا يبيعها، فانطلق ابن عمر فقضى حاجته فمر عليه فقال: يا أبا عبد الرحمن خذها بالذي أعطيتني، قال: حلفت على يمين فلم أكن لأعين الشيطان عليك وأن أحنثك) رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي، مجمع الزوائد ٤/١٨٣. فبرَّ ابن عمر بيمين الرجل.

وأخيراً أقول: إن هذا الذي أقسم عليك أن تفعل أمراً معيناً إن كان هذا الأمر مباحاً وجائزاً فينبغي عليك أن تبرَّ بيمينه لما ذكرت من الأدلة وإذا لم تبر بيمينه فعلى الحالف كفارة يمين. *****

<<  <  ج: ص:  >  >>