للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٣ - الرجعة في الطلاق]

يقول السائل: حصل خلاف بين زوج وزوجته فطلقها فذهبت الزوجة إلى بيت أبيها وقبل انقضاء عدتها نوى الزوج في نفسه إرجاعها وبقيت الزوجة ثمانية أشهر في بيت أبيها ثم أرجعها بعد أن سأل أحد المشايخ فأفتاه بأنه لا شيء عليه ورجعته لزوجته صحيحة وهي الآن تعيش مع زوجها فما قولكم في ذلك؟

الجواب: الرجعة هي أن يرد الزوج زوجته بعد طلاق غير بائن ويكون ذلك قبل انقضاء العدة والرجعة مشروعة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} سورة البقرة الآية ٢٢٩.

قال ابن كثير: [وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أنت تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تضار بها] تفسير ابن كثير ١/٥٤٦-٥٤٧.

وقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سورة البقرة الآية ٢٢٨.

قال القرطبي: [ثم قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد ليس على سنة المراجعة وهذا إجماع من العلماء] تفسير القرطبي ٣/١٢٠.

وورد في الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الشيخ الألباني صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود ٢/٤٣٢. وروى الإمام البخاري بإسناده عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسل مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) وغير ذلك من الأحاديث.

وينبغي للزوج أن يراجع زوجته حفاظاً على الأسرة ورعاية للأطفال حتى لا يتعرضوا للتشريد والضياع والرجعة تصح بالقول باتفاق العلماء كأن يقول الزوج لزوجته راجعتك أو أرجعتك أو يقول أرجعت زوجتي ونحو ذلك من العبارات الصريحة الدالة على الرجعة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظ راجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني الرجعة. والرجعة وردت بها السنة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها) وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فإنهم يسمونها رجعة والمرأة رجعية ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق، والاحتياط أن يقول: راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي] المغني ٧/٥٢٤. وقال جمهور أهل العلم بأن الزوج إذا أرجع زوجته فمن السنة أن يشهد على ذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} سورة الطلاق الآية ٢. قال ابن كثير: [وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي على الرجعة إذا عزمت عليها كما رواه أبو داود وابن ماجة عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد. وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر] تفسير ابن كثير ٦/٢٣٩.

وقد حمل أكثر أهل العلم الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على الندب مع أن الأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما الشهادة ففيها روايتان: إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي، لأن الله تعالى قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباحة بضعٍ مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع. والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختيار أبي بكر، وقول مالك، وأبي حنيفة. لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد] المغني ٧/٥٢٢-٥٢٣. وقال القرطبي: [الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب] تفسير القرطبي ١٨/١٥٨.

وتصح الرجعة عند جمهور العلماء بالفعل كما تصح بالقول وذلك بأن يجامع الرجل مطلقته الرجعية وكذلك تصح الرجعة بمقدمات الجماع كاللمس بشهوة والقبلة بشهوة ونحو ذلك مع نية الزوج إرجاعها وهذا أرجح أقوال أهل العلم في المسألة.

إذا تقرر هذا فأعود إلى السؤال فأقول أولاً: الواجب أن لا تخرج المطلقة الرجعية من بيت الزوجية لقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) سورة الطلاق الآية ١. ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المرأة المطلقة تقضي عدتها في بيت الزوجية (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) فأضاف الله عز وجل البيوت لهن. قال القرطبي: [أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن كقوله تعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) وقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك] تفسير القرطبي ١٨/١٥٤. وقد نص قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا في المادة ١٤٦ على ذلك فقد جاء فيها (تعتد معتدة الطلاق الرجعي والوفاة في البيت المضاف للزوجين بالسكن قبل الفرقة) .

ثانياً: إن الرجعة لا تصح بالنية المجردة عن القول أو الفعل. فهذا الزوج المذكور في السؤال لم يرجع زوجته الرجعة المعتبرة شرعاً.

ثالثاً: بناءً على ما تقدم فإن عودة الزوجين إلى المعاشرة الزوجية حرام شرعاً لأن الرجعة الشرعية الصحيحة لم تقع وما حصل بينهما إنما هو وطء بشبهة وعليهما تجديد عقد الزواج بمهر جديد لأن العدة قد انقضت ولم يرجع الزوج زوجته بطريق شرعي صحيح فالواجب أن يجددا عقد الزواج وأن يتوبا إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة.

رابعاً: إن الشيخ الذي أفتى بأن الرجعة صحيحة قد أخطأ في فتواه وقوله غير صحيح ولا أعلم أحداً من أهل العلم قال بفتواه الخاطئة وهذا من الإفتاء بغير علم ومن الجرأة على دين الله عز وجل وإن التسرع في الفتيا خطأ وخطر يفضي إلى عدم إصابة الحق والجرأة على الله تعالى والوقوع فيما نهى عنه يقول تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، ومن أفتى بغير علم فعمل بفتواه عامل كان إثم العامل على من أفتاه، وقال عمر بن الخطاب: " أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار". فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولمَّا يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا فقال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقال له: " يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب"

فعلى هذا الشيخ أن يتق الله في نفسه وفي الناس الذين يفتيهم بغير علم

<<  <  ج: ص:  >  >>