[١٥٤ - دفاع عن فقيه العصر الشيخ العلامة يوسف القرضاوي]
يقول السائل: ما قولكم في ما نسب إلى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أنه أباح الربا وذلك في مقال نشر في إحدى المجلات الإسلامية حيث رد الكاتب على الدكتور القرضاوي وبين أنه أحلّ الربا
الجواب: قرأت المقال المشار إليه وأسفت أسفاً شديداً أن مجلة إسلامية تنشر مثل هذا المقال الذي يغلف النقد فيه بالسبّ والشتم والطعن واتهام نيات العلماء.
أهكذا يكون النقد العلمي؟ هل هذا هو أدب الاختلاف؟ أهكذا يوجه الكلام إلى العلماء؟
إن العبارات النابية التي استخدمها الكاتب لا توجد في كتب الاختلاف، إنها ألفاظ نابية سوقية بذيئة لا يجوز شرعاً أن توجه لعالم جليل من علماء العصر ولا لغيره من الناس وحتى لا يظن أحد أني أبالغ فيما نسبته لكاتب المقال، أسوق بعض عباراته: قال الكاتب: [ ... الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال] ، [ ... لكنهم يدسون السموم لهذه الأمة بأساليب تضليلية] ، [ ... والجريمة أنه يقول ... ] ، [وقوله هذا ضابط جريمة أكبر ... ] ، [ ... لنبين نموذجاً من خطورة فتاوى مثل هؤلاء وكيف أنهم يحكمون عقولهم في شرع الله اتباعاً للهوى دون دليل أو شبهة دليل] ، [ ... وإظهار من يخرب على المسلمين دينهم] .
هذه بعض العبارات التي قالها الكاتب في حقّ الدكتور القرضاوي حفظه الله من سهام الحاقدين. وقد ألصق الكاتب بالدكتور القرضاوي أموراً لا تصدر عن طويلب علم مبتدئ فضلاً أن تصدر من طالب علم فكيف تصدر من عالم كالشيخ القرضاوي مضى عليه أكثر من نصف قرن من الزمان وهو يدعو إلى الله ويكتب ويؤلف ويعلّم ويحاضر؟! زعم الكاتب أن القرضاوي يخالف القطعيات التي هي من المحكمات غير المتشابهات؟! وزعم أن القرضاوي يعتبر عقله من مصادر التشريع وهذا كلام لا يقوله أحد ينسب إلى العلم فهو تجنٍ واضح على الشيخ، وزعم الكاتب أنه سيحاكم القرضاوي ونصب الكاتب نفسه قاضياً ومدعياً وشاهداً باسم النصوص الشرعية التي يتباكى على مخالفتها، فكان خصماً لدوداً وحكماً ظالماً وأنّى له أن يكون حكماً عادلاً وهو لا يملك شيئاً من مقومات الحَكَم العدل؟!
وزعم الكاتب أنه لا يصح لأحد أن يعترض على تفنيد مثل هذه الفتاوى وإدحاضها. ثم استدل على ذلك بحديث رواه الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: [من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قالوا: يا رسول الله، ما الغش؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها] وأقول للكاتب إن هذا الحديث ضعيف جداً لا يصلح دليلاً ومن يعترض على القرضاوي وأمثاله من العلماء لا بد أن يعرف ما يصدر منه حتى لا يحتج بما لا يصلح دليلاً، وعليه أن يراجع تخريج العراقي لإحياء علوم الدين ليرى الحكم على الحديث السابق.
وقد زعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا اعتماداً على قول الله تعالى:
(لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) وقد قوّل القرضاوي ما لم يقل وأعظَمَ الفرية على الشيخ وما قرأ الكاتب كلام الشيخ القرضاوي ولا يريد أن يقرأ ما كتبه العلامة القرضاوي حول هذه الآية في كتابه " فوائد البنوك هي الربا الحرام " قال الشيخ القرضاوي حفظه الله تحت عنوان ربا الأضعاف المضاعفة: [ومما قيل في تبرير فوائد اليوم: إن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) أما الربا القليل مثل ٨% أو ١٠% ونحوه فهذا لا يدخل في الربا المحظور. وهي شبهات أثيرت منذ أوائل هذا القرن الميلادي بدعوى الاستناد إلى الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . ومن المعلوم لمن يتذوقون العربية ويفقهون أساليبها: أن هذا الوصف للربا (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) إنما سيق لبيان الواقع وتبشيعه وأنهم بلغوا فيه إلى هذا الحدّ عن طريق الربا المركب المتصاعد. ومثل هذا الوصف لا يعتبر قيداً في المنع بحيث يجوز ما لم يكن أضعافاً مضاعفة. وهذا مثل أن نقول اليوم: قاوموا المخدرات القاتلة التي تقتل الإنسان من أول شمة! هذا الوصف لهذا النوع من المخدرات المنتشر في الواقع والذي فاق خطره كل خطر لا يعني إخراج الأنواع الأخرى من المخدرات عن دائرة الحظر والمقاومة بل هو تفظيع وتبشيع للواقع المؤسف حتى يعمل الجميع على تغييره. وقد جرت سنة التحريم في الإسلام أن يمنع القليل خشية الوقوع في الكثير وأن يغلق الباب الذي يمكن أن تهب منه رياح الفساد والإفساد. ثم ما هو القليل والكثير؟ وما الذي يجعل الـ ١٠% قليلاً؟ والـ ١٢% كثيراً؟ وما المعيار الذي يحتكم إليه؟ ولو أخذنا بظاهر ألفاظ الآية الكريمة لكانت الأضعاف المضاعفة ما بلغ ٦٠٠% " ستمائة في المائة " كما قال شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله. لأن كلمة " أضعاف " جمع وأقله ثلاثة فإذا ضوعفت الثلاثة - ولو مرة واحدة - كانت ستة! فهل يقول بهذا أحد؟ على أن البيان الحاسم هنا هو ما جاءت به آيات سورة البقرة وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم وفيها إبطال لكلّ تعلّة. يقول تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان ٢٧٨-٢٧٩] ص ٥٥-٥٧.
وزعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا عندما تحدث عن الشركات المساهمة التي معظم عملها في الحلال ولكنها قد تقرض وتقترض بالربا. واعتبر الكاتب أن كلام القرضاوي فيه إباحة قليل الربا فقال الكاتب في مقاله: [إنه افترض أن الربا المحرم هو الربا الكثير] وسبق كلام الشيخ القرضاوي في تحريم قليل الربا وكثيره، وفي الحقيقة إن الكاتب لم يحرر المسألة محل النزاع التي كان القرضاوي يتحدث فيها وحتى تتضح الصورة لا بد من توضيح ما يلي:
أولاً: إن الشركات المساهمة التي زعم الكاتب أنها باطلة من أساسها سواء تعاملت بالربا أم لم تتعامل، إن هذا الرأي الذي يتبناه الكاتب هو الباطل بعينه وإن هذا الرأي بني على أسس واهية هي أوهى من بيت العنكبوت وإذا أراد أن يعرف حقيقة فساد وبطلان هذا القول فليرجع إلى ما كتبه الدكتور عبد العزيز الخياط في نقض هذا القول في كتابه " الشركات " وأظنه كان يتبنى هذا القول من قبل ورجع عنه. فالشركات المساهمة صحيحة عند العلماء المعاصرين ضمن الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم والقول ببطلانها قول شاذ وليس هذا محل بحثها.
ثانياً: إن الشيخ القرضاوي تكلم عن شركات مساهمة كبيرة قائمة فعلاً مثل: شركة الكهرباء وشركة النفط وشركة الاتصالات، وهذه الشركات معظم تعاملها بالحلال ولكنها تتعامل بالربا فيرى الشيخ القرضاوي أنه ما دام معظم كسب هذه الشركات من حلال فلا بأس إن خالطه شيء من حرام أي لا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذه الشركات لغيرهم خاصة وأنها شركات تسيطر على مرافق أساسية في البلاد وإنما عليهم الدخول في مثل هذه الشركات لمحاولة أسلمتها، وضرب مثلاً بأحد رجال الأعمال المسلمين الذي دخل في عدة شركات واستطاع أن يغير أحوال كثير فيها. وقال الشيخ القرضاوي إنّه إذا لم نستطع أن نصل إلى أسلمة هذه الشركات فعلينا أن نخرج ما يقابل الفوائد الربوية. وما ذهب إليه الشيخ القرضاوي في هذه المسألة ووافقه عليه عدد من العلماء المعاصرين لا يعني إباحة الربا القليل كما زعم الكاتب وادعى. وإن كان بعض العلماء قد خالفوا الشيخ فيما ذهب إليه.
ثالثاً: إن ما ذكره الكاتب حول قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيه مغالطات وسوء فهم للقاعدة وبيان ذلك: أن الكاتب قال: [صحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن العبرة بخصوص الموضوع ... ] وكلام الكاتب الأخير يبطل العمل بالقاعدة الأصولية لأن خصوص الموضوع هو السبب الخاص الذي ورد فيه العام فإذا حصرنا العام بالموضوع الخاص فعنئذ لا نعمل بالقاعدة ونبطل مفعولها وبيان ذلك أنه قد ثبت في حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:
( ... ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أبدأ بما بدأ الله به) رواه مسلم، وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إبدأوا بما بدأ الله به) رواه النسائي. فسبب ورود هذا الحديث كان في السعي بين الصفا والمروة وأن بداية السعي تكون بالصفا. والموضوع الذي ورد فيه الحديث هو السعي. ومع ذلك قال العلماء العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعندما بحث العلماء مسألة الترتيب في الوضوء احتجوا بهذا الحديث مع أنه ورد في موضوع السعي وليس في الوضوء، قال الصنعاني معلقاً على إيراد الحافظ ابن حجر لهذه القطعة من حديث جابر في باب الوضوء: [وذكر المصنف هذه القطعة من حديث جابر هنا لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكراً نبتدئ به فعلاً ... فإن اللفظ عام والعام لا يقتصر على سببه أعني بما بدأ الله به لأن كلمة " ما " موصولة والموصولات من ألفاظ العموم وآية الوضوء وهي قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) داخلة تحت الأمر بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا ما بدأ الله به) فيجب البداءة بغسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب] سبل السلام ١/٥٢. فها هم العلماء يحتجون بالقاعدة المذكورة في غير الموضوع الذي وردت فيه وهذا هو المعروف عند الأصوليين وأما قول الكاتب بأن العبرة بخصوص الموضوع فهذا كلام غير صحيح.
وذكر الكاتب أيضاً: [قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ... أيصح لنا أن نقول استناداً إلى هذه الآية إن العطايا والمنح والهبات التي يقدمها الرجل لأبنائه في حياته ينبغي أن تكون للذكر مثل حظ الأنثيين ونعتمد على القاعدة " العبرة بعموم اللفظ " لأن أولادكم لفظ عام لأنه مضاف ومضاف إليه. والإضافة تفيد العموم، أيصح لنا ذلك؟ إن جعل حصة الذكر مثل حظ الأنثيين خاص بالإرث فلا ينبغي أن يتعدى ذلك ويستدل به على غير هذا الموضوع] وأقول رداً على هذا الكلام نعم يصح لنا ذلك وقد استدل العلماء بهذه الآية وأجازوا ما زعم الكاتب أنه غير جائز. ففي مسألة عطية الأب لأولاده قال جماعة من أهل العلم بأنه يجوز للأب إذا أراد أن يعطي أولاده من أمواله أن يعاملهم وفق آية المواريث فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، قال الشوكاني: [فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث] نيل الأوطار ٦/١٠، وانظر الاستذكار لابن عبد البر ٢٢/٢٩٧، والفقه الإسلامي وأدلته ٥/٣٤.
وبهذا يظهر لنا أن فهم الكاتب لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهم غير صحيح.
وأخيراً أذكِّر الكاتب وأمثاله ممن يتبنون مثل هذه الأساليب في التعرض للعلماء أنّ عليهم أن يتقوا الله عزّ وجلّ وأن يتأدبوا بأدب الإسلام في التعامل مع العلماء وأن يفرقوا بين النقد العلمي وبين السبّ والشتم فالعلماء غير معصومين من الوقوع في الخطأ فنقدهم شيء وسبهم والنيل من أعراضهم شيء آخر.
قال الحافظ ابن عساكر: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حقّ تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] .
?????