للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٢ - حكم تولي المرأة القضاء الشرعي]

يقول السائل: ما قولكم في تولي المرأة للقضاء الشرعي، أفيدونا؟

الجواب: منصب القضاء الشرعي من الولايات العامة التي لا يجوز شرعاً للمرأة أن تتولاها، كما هو مقرر عند العلماء، وإن أبى ذلك الذين يدَّعون مناصرة قضايا المرأة، فمن المعلوم أن الإسلام قد أكرم المرأة أيما إكرام، وأعطاها كل حقوقها، بخلاف ما عليه الشرائع الأخرى والأنظمة الوضعية، وقضية تكريم الإسلام للمرأة قضية واضحة جلية من خلال نصوص الكتاب والسنة، وإن كان كثير ممن أعمى الله بصائرهم وأبصارهم لا يرونها كما قال الشاعر: قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ ويُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماء منْ سَقَم

ولاشك أن الله جل جلاله قد خلق الذكر والأنثى وبينهما تفاوت في مجالات عدة، ومنها تفاوت وعدم تساوٍ في بعض الأحكام الشرعية كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} سورة آل عمران الآية ٣٦، فليست الأنثى كالذكر في كل الأمور، فهنالك فوارق واضحة في الخلقة الطبيعية، وكذلك في الأحكام الشرعية بين الذكر والأنثى، فالمرأة تختلف عن الرجل في أحكام تتعلق بالصلاة والصيام والحج والنفقات والديات وولاية الحكم وغيرها، والتفريق بين الذكر والأنثى مقرر في شريعتنا وفي الشرائع السابقة، وحتى في الأنظمة الوضعية، فالدعوة إلى مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، كذب وافتراء على دين الإسلام، قال الله تعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة القلم الآية ١٤. إذا تقرر هذا فإن جماهير أهل العلم لا يجيزون للمرأة أن تتولى القضاء، وقد قامت على ذلك أدلة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها كلها، ولكن أذكر أهمها: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} سورة النساء الآية ٣٤. وهذه الآية عامة حيث إن (أل) تفيد الاستغراق فتشمل كل النساء والرجال في جميع الأحوال، ومن المقرر عند الأصوليين أن العام يبقى على عمومه حتى يأتي ما يخصصه، ولم يوجد مخصص لهذا العموم، انظر إرشاد الفحول ص ١٤. وقال الشيخ ابن كثير في تفسير الآية: [أي: الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت {بما فضل الله بعضهم على بعض} أي: لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خيرٌ من المرأة؛ ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري ... وكذا منصب القضاء وغير ذلك {وبما أنفقوا من أموالهم} أي: من المهور والنفقات والكُلَف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيماً عليها، كما قال الله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} سورة البقرة الآية ٢٢٨] تفسير ابن كثير ٢/٢٩٣. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أبى بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) ، فهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من أسباب عدم الفلاح تولي المرأة للولايات العامة، والقضاء داخل فيها، فإن قال قائل إن هذا الحديث ورد في حادثة خاصة، فنقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند الأصوليين. قال الأمير الصنعاني عند شرحه للحديث السابق: [فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومها توليتها لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب] سبل السلام ٤/٩٦. وقال الشيخ ابن العربي المالكي: [وهذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة، ولا خلاف فيه. ونقل عن محمد بن جرير الطبري إمام الدين أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية؛ ولم يصح ذلك عنه؛ ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستبانة في القضية الواحدة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير] أحكام القرآن ٣/١٤٥٧. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء ما ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثةٌ، واحدٌ في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجلٌ عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة حديث رقم ٢٣١٥. وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على اشتراط كون القاضي رجلاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر القضاة بينهم بقوله: رجلٌ في الحالات الثلاث، قال ابن تيمية الجد: [وهو – أي الحديث - دليل على اشتراط كون القاضي رجلاً] وقال الشوكاني: [واستدل المصنف أيضاً على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل ورجل، فدلَّ بمفهومه على خروج المرأة] نيل الأوطار ٤/١١٢. ومما يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أنه لم يثبت في تاريخ الإسلام وعلى مدى هذه القرون المتطاولة أن تولت امرأة القضاء، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفاء المسلمين لا في عهد الراشدين ولا الأمويين ولا العباسيين ولا غيرهم أنهم ولوا امرأة القضاء، ولو حصل لنقل، قال الإمام القرافي: [ولذلك لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء، فكان ذلك إجماعاً، لأنه غير سبيل المؤمنين] الذخيرة ١٠/٢٢. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من خلفائه، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً] المغني ٥/٣٤. ولا شك أن فتح هذا الباب إنما هو فتح لباب شرٍ، والمسلمون في غنىً عنه، وهو من باب من سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم. ومما يؤكد أنه لا يجوز للمرأة أن تتولى القضاء أن في ذلك مدخلاً للخلطة المنهي عنها شرعاً، قال الإمام البغوي: [اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً، لأن الإمام يحتاج إلى البروز لإقامة أمر الجهاد، والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عند القيام بأكثر الأمور، ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال] شرح السنة ١٠/٧٧. ويضاف إلى ذلك ما يعتري المرأة من عوارض طبيعية كالحمل والرضاع والحيض والنفاس، وهذه أمور تتعارض مع توليها لمنصب القضاء الذي يحتاج إلى الصحة البدنية والنفسية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وغير ذلك من الأدلة. ولا بد أن أذكر هنا أمرين أولهما: مستند من قال بجواز تولي المرأة للقضاء هو تعيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها على ولاية الحسبة وهي أخطر من منصب قاضي الأحوال الشخصية كذا زعموا، أقول إن هذا الاستدلال باطل، لأن قصة تولية الشفاء للسوق في عهد عمر رضي الله عنه قصة ليست ثابتة، قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وقد روي أن عمر قدَّم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح؛ فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث] . أحكام القرآن ٣/١٤٥٧. وهذه الحادثة روتها كتب التراجم بدون إسناد، ومع ذلك رويت بصيغة التضعيف فلا يعول عليها ولا يعتمد عليها، قال ابن سعد: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه] طبقات ابن سعد ١/٢٥٠، ولاشك أن أولادها أعلم بحال أمهم من غيرهم. وقال الحافظ ابن عساكر: [وكانت الشفاء بنت عبد الله أم سليمان بن أبي حثمة من المبايعات، ... ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق، وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه) تاريخ دمشق عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ المزي في ترجمة الشفاء بنت عبد الله: [وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق] تهذيب الكمال عن المكتبة الشاملة، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أمر السوق.] الإصابة ٤/١٤. ثانيهما: لو سلمنا بجواز تولي المرأة للقضاء فإن من أجاز للمرأة تولي القضاء أجازه بشروط منها: أن تتوافر في المرأة المراد تقليدها القضاء الشروط المطلوبة في القضاة، من أهلية القضاء من رجحان العقل، والاتزان، وسلامة الحواس، ومن العدالة والاستقامة على طريق الحق، والقدرة على الوقوف أمام الباطل من خلال شخصية قوية متزنة، إضافة إلى العلم بالأحكام الشرعية؛ لأن القاضي الجاهل في النار، كما ورد ذلك في الحديث. وأن تهيأ للقاضيات الأجواء التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة. وألا يكون هذا المنصب على حساب تربية أولادها والحقوق المتبادلة بينها وبين زوجها. عن موقع إسلام أون لاين، وإذا نظرنا في هذه الشروط نجد أنه من الصعب جداً تحققها.

وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً أن تتولى المرأة منصب القضاء، وهذا هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة في هذه المسألة، وليس عند من أجاز ذلك دليل صحيح يعتمد عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>