للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢٠١ - التجار واستغلال شهر الصيام برفع الأسعار]

يقول السائل: ما قولكم في ظاهرة ارتفاع الأسعار في شهر رمضان، حيث يستغل كثيرٌ من التجار إقبال الناس على الشراء في شهر رمضان المبارك، فيرفعون أسعار السلع، أفيدونا؟

الجواب: وضع الإسلام مجموعةً من الضوابط والقيم الأخلاقية التي تضبط التعامل في الأسواق، وينبغي على التجار والمستهلكين التحلي بها، وهذه الضوابط والقيم مستمدة من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن سير الصحابة والسلف في تعاملهم التجاري. قال أبو حامد الغزالي: [وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط، وهو يجري من التجار مجرى رأس المال، والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة، وهو يجري من التجارة مجرى الربح، ولا يُعَدُّ من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله، فكذا في معاملات الآخرة، فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان وقد قال الله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ونعني بالإحسان فعل ما ينتفع به العامل وهو غير واجب عليه ولكنه تفضلٌ منه، فإن الواجب يدخل في باب العدل وترك الظلم] إحياء علوم الدين ٢/٨٠-٨١. وكذلك فإن الصدق والأمانة والنصيحة من أعظم أخلاق التاجر المسلم، فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الها عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) رواه الترمذي وقال حديث حسن. سنن الترمذي ٣/٥١٥. وفيه ضعف منجبر كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص ١٢٤. وعن رفاعة رضي الهـ عنه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: (يا معشر التجار فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبرَّ وصدق) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. سنن الترمذي ٣/٥١٦، وغير ذلك من الأحاديث. ومن الأمور التي ينبغي للتجار ألا يتعاملوا بها الغبن، وهو أن يُغلبَ أحدُ المتبايعين، وهو نوعٌ من الخداع، قال أبو حامد الغزالي: [ ... فينبغي أن لا يغبن صاحبَه بما لا يتغابن به في العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشتري زيادة على الربح المعتاد، إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته في الحال إليه، فينبغي أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان ومهما لم يكن تلبيس لم يكن أخذ الزيادة ظلماً، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الغبن بما يزيد على الثلث يوجب الخيار، ولسنا نرى ذلك ولكن من الإحسان أن يحط ذلك الغبن. يروى أنه كان عند يونس بن عبيد حُللٌ -نوع من الثياب- مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمرّ إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها، فمضى بها وهي على يديه فاستقبله يونس فعرف حلته فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله، وقال أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك، وهذا إن كان فيه إخفاء سعر وتلبيس فهو من باب الظلم...وروي عن محمد بن المنكدر أنه كان له شقق -نوع من الثياب- بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع في غيبته غلام شقة من الخمسيات بعشرة، فلما عرف لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري طول النهار حتى وجده، فقال له: إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة. فقال: يا هذا قد رضيت، فقال: وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نردَّ عليك خمسة، وإما أن تردَّ شقتنا وتأخذ دراهمك. فقال: أعطني خمسة. فردَّ عليه خمسة وانصرف الأعرابي يسأل ويقول: من هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله هذا الذي نستسقي به في البوادي إذا قحطنا. فهذا إحسان في أن لا يربح على العشرة إلا نصفاً أو واحداً على ما جرت به العادة في مثل ذلك المتاع في ذلك المكان، ومن قنع بربحٍ قليلٍ كثرت معاملاته واستفاد من تكررها ربحاً كثيراً، وبه تظهر البركة. كان علي رضي الهح عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: معاشر التجار خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره] إحياء علوم الدين ٢/٨١-٨٢. إذا تقرر هذا فإن رفع التجار للأسعار في رمضان منافٍ للقيم الأخلاقية التي قررها الشرع في البيع والشراء، صحيح أن الإسلام لم يحدد نسبة معينة للربح، ولكن الربح القليل والقناعة به أقرب إلي هدي السلف وأبعد عن الشبهات. وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر ما يلي: [أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة النساء الآية ٢٩.ثانياً: ليس هناك تحديدٌ لنسبة معينةٍ للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم، بل ذلك متروكٌ لظروف التجارة عامة، وظروف التاجر والسلع، مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.] ويحرم شرعاً على التجار أن يستغلوا حاجات الناس فيرفعوا الأسعار ويحتكروا السلع، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم ٢٥٠. ولا يقل استغلال التجار لشهر الصيام برفع الأسعار عن الاحتكار وهو أمرٌ محرمٌ، فقد ورد في الحديث عن معمر بن عبد الله رضي الهه عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم. ويدخل رفع الأسعار بدون موجب في باب أكل أموال الناس بالباطل، كما قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} سورة النساء الآية ٢٩. ولا شك أن لجمهور المستهلكين دوراً واضحاً في زيادة جشع التجار في رفع الأسعار، وذلك من خلال زيادة الاستهلاك والإقبال المحموم على شراء السلع، وكأن الواحد منهم يشتري للمرة الأخيرة!! فلا بد للمستهلك أن يلتزم أيضاً بالضوابط الشرعية للاستهلاك، ومنها: مقاطعة السلع عندما يقوم التجار برفع الأسعار بدون موجب، كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاء الناس إليه فقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم. فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم.) وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم غلا قال: فأرخصوه، أي لا تشتروه) . وعن رزين بن الأعرج قال: غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر) فأفضل حلٍ لمعالجة ظاهرة غلاء الأسعار هو المقاطعة، أو استبدال السلع الغالية بسلعٍ أخرى أرخص ثمناً، فإذا رفع التجار سعر اللحم فليتوجه الناس إلى شراء الدجاج، وإذا رفع التجار سعر البندورة الطازجة فليتوجه الناس إلى صلصة البندورة أو إلى خضارٍ أخرى وهكذا. ومن الضوابط الشرعية للاستهلاك البعد عن الإسراف والتبذير، فيشتري الشخص مقدار حاجته فقط، [فالإسلام يدعو إلى الاعتدال في الاستهلاك، فيمنع كلًا من التقتير أو الإسراف. قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا} سورة الفرقان الآية ٦٧. ولضمان السير على هذه الضوابط، جعل الإسلام المسلم مسؤولًا يوم القيامة عن سلوكه الاستهلاكيّ، هل كان خالصًا لوجهه سبحانه، وصوابًا على نحو ما أراد، فهو معاقبٌ لا محالة إن قصّر في هذا الجانب؛ ومن هذه النصوص قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} سورة التكاثر آية ٨. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربّه حتى يسأل عن خمسٍ ومنها: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني. انظر سلوك المستهلك ص ١٨. وكذلك فإن من ضوابط الاستهلاك أن يكون الاستهلاك في حدود مستوى الدخل أي الإنفاق بالمعروف، وهذا ما أكّدت عليه نصوص الكتاب والسنة. قال الله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة البقرة، آية ٢٣٣، والمعروف: هو الإنفاق بحسب الوسع بدليل قوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها} سورة الطلاق آية ٧، وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} سورة الطلاق آية ٧، قال الشيخ ابن العربي المالكي: [يعني على قدر حال الأب من السعة والضيق] أحكام القران لابن العربي ١/٢٢٧. وانظر سلوك المستهلك ص ١٢١. ولا بد من التنبيه على دور القنوات الفضائية في زيادة شره المستهلكين وخاصة في شهر رمضان، فالفضائيات تسهم بشكلٍ كبيرٍ في توجيه جمهور المستهلكين إلى زيادة الاستهلاك، من خلال الدعاية للسلع، وكذلك من خلال برامج الطبخ المختلفة، التي تؤثر في سلوك النساء في المطبخ وبالذات في شهر رمضان، لذا لا بد من توعية المستهلكين بخطر الإعلام وعدم تصديق كل ما يشاهدونه على شاشات الفضائيات وفي الصحف والمجلات، ولا بد من الانتباه إلى خطورة الفضائيات ومدى تأثيرها على الناس، وتنبيه الناس إلى أن من نتائج التربية الغربيّة عامّة، والأمريكيّة خاصّة، التي قادها مربّون أمثال جون ديوي، وجورج كونت، وبرونز، هي: (إنجاب أمّة أغنام توجّهها وسائل الإعلام) . سلوك المستهلك ص ١٧١. وأخيراً فنظراً لضعف الوازع الديني وقلة التقوى وزيادة الجشع والطمع لا بد من ضبط الأسواق ومراقبتها، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال عثمان رضي الله عنه.

وخلاصة الأمر أن استغلال التجار لشهر الصيام برفع الأسعار بدون موجب، أمرٌ محرمٌ شرعاً، لأن فيه إلحاق الضرر بالناس، ويدخل أيضاً في باب أكل أموال الناس بالباطل، وأن الواجب على التجار أن يتقوا الله في المستهلكين، وأن يقنعوا بالربح القليل، وواجب المستهلكين أن يضبطوا استهلاكهم بالضوابط الشرعية التي أشرت لها، وإن لزم الأمر فإن أفضل وسيلة لمعالجة غلاء الأسعار هو مقاطعتها وتركها للتجار. كما أن مراقبة الأسعار أمر ضروري في ظل كثرة الجشع وزيادة الطمع وقلة التقوى وغياب الورع.

<<  <  ج: ص:  >  >>