للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٤٤ - حدود طاعة الوالدين]

يقول السائل: إن الإسلام أوجب طاعة الوالدين ولكن ما هي حدود طاعة الوالدين؟

الجواب: طاعة الوالدين من أوجب الواجبات التي أمر بها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وحق الوالدين عظيم ولهذا جاء حقهما في الترتيب بعد حق الله تعالى مباشرة. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} سورة الإسراءالآيتان٢٣-٢٤. وقال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} سورة النساء الآية ٣٦. وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} سورة العنكبوت الآية٨ وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال أو العمل الصلاة لوقتها وبر الوالدين) رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد) رواه الترمذي وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم ٥١٦. ويجب أن يعلم أن طاعة الوالدين من أسباب تفريج الكرب والمصائب كما صح في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها لعل الله يفرجها عنكم فقال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني وأنه نأى بي ذات يوم الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما فحبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما وأكره أن أسقي الصبية قبلهما والصبية يتضاغون عند قدمي فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة نرى منها السماء ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وطلبت إليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار فتعبت حتى جمعت مائة دينار فجئتها بها فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم وقال الآخر اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز فلما قضى عمله قال أعطني حقي فعرضت عليه فرقه فرغب عنه فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءها فجاءني فقال اتق الله ولا تظلمني حقي قلت اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال اتق الله ولا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بك خذ ذلك البقر ورعاءها فأخذه فذهب به فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرج الله ما بقي) رواه مسلم. وكذلك فإن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر ومن أسباب دخول جهنم والعياذ بالله فقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزور. قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح انظر صحيح سنن النسائي ٢/٥٤١. وغير ذلك من النصوص الكثيرة، إذا تقرر هذا فإن طاعة الوالدين ليست مطلقة وإنما لها حدود لا يجوز تعديها وأهم هذه الحدود أن طاعة الوالدين إنما تكون في المعروف فإذا أمر الوالدان ولدهما بمعصية فلا طاعة لهما قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} سورة لقمان: ١٥. ويدل على ذلك أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم

وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه أحمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي. فتح الباري ٥/٢٤١، وقال الشيخ الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم. وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني ١/١٣٧-١٤٤. وقال الحسن البصري: [إن منعته أمه عن صلاة العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها] رواه البخاري تعليقاً. فإذا أمر الوالدان أو أحدهما ولدهما بمعصية أو منكر فلا تجب طاعتهما لما تقدم من الأدلة وعلى الولد أن يرفض طاعة والديه إذا أمراه بمعصية ولكن برفق وحكمة دون أن يسيء لهما بالقول ولا بد من معاملتهما معاملة كريمة طيبة حتى لو كانا كافرين كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} سورة لقمان الآية ١٥. وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصِل أمي؟ قال: نعم، صِلي أمك. رواه البخاري ومسلم. وكذلك فإن الولد غير ملزم بطاعة والديه فيما يتعلق بشؤونه الخاصة ما دام أنه ملتزم فيها بشرع الله مثل أن يلزماه بأن يتزوج امرأة معينة كما تفعل بعض الأمهات من إلزام ولدها من الزواج من إحدى قريباتها أو أن يطلق زوجته بسبب خلاف وقع بين الأم وزوجة الابن وكذلك الأمر بالنسبة للبنت إذا أجبرها أبوها على الزواج من شخص لا ترضاه كأن يكون فاسقاً أو سيء الأخلاق ولو كان ابن عمها وفي هذه الحالات وأمثالها إذا امتنع الولد من طاعة والديه لم يكن عاقاً قال شيخ الإسلام ابن تيمية [ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ولا يمكن فراقه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣٢/٣٠. وإن احتج أحد بما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال (كانت لي امرأة أحبها وكان أبي – أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يكرهها فأمرني أبي أن أطلقها فأبيت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وهذا الاحتجاج فيه نظر لأن عمر رضي الله عنه عندما أمر ابنه بطلاق زوجته كان له سبب شرعي لذلك وأين آباء اليوم من عمر رضي الله عنه!!! وقد جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي؟ فقال له الإمام أحمد: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك؟ فقال الإمام أحمد: وهل أبوك مثل عمر؟ وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل متزوج، وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها هل يجوز له طلاقها؟ فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه؛ بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من بِرِّها. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً عن امرأة ووجها مُتَّفِقَين وأمُّها تريد الفرقة فلم تطاوعها البنت فهل عليها إثمٌ في دعاء أمها عليها؟ فأجاب رحمه الله: [إذا تزوجت المرأة لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتهم بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها (وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة) وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها اللهم إلا أن يكونا مجتمعَين على معصية أو يكون أمره للبنت بمعصية الله والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ٣٣/١١٢.

وخلاصة الأمر أن طاعة الوالدين فريضة من فرائض الله عز وجل كما أن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب ولكن طاعتهما لا تكون إلا في المعروف ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

<<  <  ج: ص:  >  >>