[١٢ - لا يجوز ترك حضور خطبة الجمعة بسبب نوعية الخطبة]
يقول السائل: هل يجوز لي أن لا أذهب يوم الجمعة إلى المسجد إلا بعد انتهاء الخطيب من خطبة الجمعة، لأن الخطيب في مسجدنا غير مؤهل وموضوعات خطبه مكررة ولا تعالج القضايا الهامة، أفيدونا؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة الجمعة الآية ٩. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: [ {ذكر الله} أي الصلاة، وقيل الخطبة والمواعظ، قاله سعيد بن جبير. – قال - ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة. وبه قال علماؤنا، إلا عبد الملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته، لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكراً لله بفعله كما يكون مسبحاً لله بفعله] تفسير القرطبي ١٨/١٠٧.
وقد قال جمهور الفقهاء: إن خطبة الجمعة شرط لصحة صلاة الجمعة، فلابد من خطبة تسبق صلاة الجمعة، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ونقل عن عطاء والنخعي وقتادة والثوري وإسحاق وأبي ثور ونقله القاضي عياض عن كافة العلماء، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال - أي الخرقي -: فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما ً. وجملة ذلك أن الخطبة شرط في الجمعة لا تصح بدونها كذلك قال عطاء والنخعي ,، وقتادة والثوري والشافعي ,، وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا ً, إلا الحسن قال: تجزئهم جميعهم، خطب الإمام أو لم يخطب، لأنها صلاة عيد , فلم تشترط لها الخطبة كصلاة الأضحى، ولنا قول الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} والذكر هو الخطبة ,، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة للجمعة في حال وقد قال: (صلوا كما رأيتمونى أصلي) ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وقول عائشة نحو من هذا] المغني٢/٢٢٤، وانظر المجموع ٤/٥١٤، بدائع الصنائع ١/٥٨٩.
إذا تقرر هذا فإن خطبة الجمعة لها شأن عظيم عند الله عز وجل فهي ذكرٌ لله كما سماها الله في كتابه الكريم، وهي شعيرة من شعائر الدين، وقد صح في الحديث أن الملائكة تشهدها فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة - أي ناقة - ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم. وإذا كان لخطبة الجمعة هذه المكانة فإن كثيراً ممن يصعدون المنابر اليوم ما هم بخطباء على الحقيقة، بل هم أشباه خطباء، فليس كل من صعد المنبر يسمى خطيباً، قال محمد كاتب المهدي ـ وكان شاعراً راويةً وعالماً في النحو ـ: سمعت أبا داود بن جرير يقول ـ وجرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام ـ فقال: [رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحُليُّها الإعراب، وبهاؤها تخير الألفاظ] البيان والتبيين.
إن كثيراً ممن يصعدون المنابر اليوم لا يقدرون قيمة هذا المنبر ولا يعطونه الأهمية التي يستحقها لأن مواصفات الخطيب الناجح بعيدة عنهم كل البعد، كما أنه لا تبذل جهود حقيقية للرقي بخطيب الجمعة وإعداده إعداداً صحيحاً ليقوم بهذه المهمة العظيمة، بعض من يصعدون المنابر في بلادنا يسيئون لخطبة الجمعة، فمثلاً بعض هؤلاء إذا اعتلى المنبر نظر للمصلين نظرة فوقية، فيبدأ بتوجيه اللوم لهم وكأنهم مسئولون عن كل النكبات التي حلت بالأمة الإسلامية، ولا تسمع منه إلا ذكر المصائب والآلام ويقتل روح الأمل في نفوس المصلين، مع أن واجب الخطيب الناجح أن يبعث الأمل في نفوس المصلين، ويغرس الثقة بالله عز وجل في نفوس الناس، قال علي رضي الله تعالى عنه: [ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ قالوا: بلى. قال: من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه. ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا علم ليس فيه تفهم ولا قراءة ليس فيها تدبر] . جامع بيان العلم ٢/٥٥. ولا شك أن الأمة الإسلامية تمر في ظروف عصيبة ولكن هذا الظرف لا يدفعنا إلى القنوط واليأس، فالأمة تحتاج إلى خطيب يبعث الأمل، ويشحذ الهمم، ويمسح مرارة الأحداث، ولا شك أن الأمة المسلمة تسير إلى خيرٍ وتمكين، والوعد الرباني بنصر الإسلام والمسلمين سيتحقق بإذن الله عز وجل: قال تعالى {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} سورة آل عمران ١٤٠. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن عبد الله بن عياض قال دخل عبيد بن عمير على عائشة فسألت: من هذا؟ فقال: أنا عبيد بن عمير. قالت: عمير بن قتادة؟ قال: نعم يا أمتاه. قالت: أما بلغني أنك تجلس ويجلس إليك؟ قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: فإياك وتقنيط الناس وإهلاكهم] مصنف عبد الرزاق ٣/ ٢١٩-٢٢٠. وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن أو الفأل الصالح) كما في روايات الحديث، رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فلا يقبل من خطيب الجمعة أن ينظر نظرة سوداء متشائمة، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم) رواه مسلم، ففي الحديث ذم للتشاؤم وتقنيط الناس، وفيه أيضا ذم من زكى نفسه وتنقص غيره بغير حق. قال الإمام النووي: [واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم، لأنه لا يعلم سر الله في خلقه. قالوا: فأما من قال ذلك تحزناً لما يرى في نفسه وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه كما قال: لا أعرف من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً. هكذا فسره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه. وقال: الخطابي: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساؤهم، ويقول: فسد الناس، وهلكوا، ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم. والله أعلم.] شرح النووي على صحيح مسلم ٦/١٣٤-١٣٥.
وبعض من يصعدون المنابر في بلادنا لا يخاطبون الناس على قدر عقولهم، فتراه يتكلم في موضوع يثير العامة عليه، فلا يحسن اختيار موضوع الخطبة، فليس كل حقٍ يصلح أن يذكر على المنابر، فهنالك أمور لا تطرح على العامة، لأنهم قد لا يستوعبونها، أو تخالف ما ألفوه وعرفوه، فيحتاج الأمر إلى تمهيد وإعداد وليس محل ذلك خطب الجمعة، لذا ينبغي أن يكون الخطيب حصيفاً عند اختيار موضوع الخطبة، ولا يقبل أن يتناول الخطيب موضوعاً يثير العامة عليه، وقد يؤدي ذلك إلى إحداث فوضى في المسجد وصياح واعتراض على الخطيب وينتهي الأمر بأن يقوم بعض العامة بسحب الخطيب عن المنبر، فلا شك أن هذا حمق، وقصر نظر من الخطيب، وإساءة بالغة لخطبة الجمعة وتضييع لهيبتها من نفوس الناس، وكذا فيه إساءة لأدب المسجد، إن من مقتضيات نجاح الخطيب أن يخاطب الناس على قدر عقولهم، وعلى الخطيب أن يعلم أنه يستحيل إصلاح الناس في خطبة واحدة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله واصفاً خطب النبي صلى الله عليه وسلم: [وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم] زاد المعاد١/ ١٨٩. وقال ابن عباس رضي الله عنهما عمن وعظ العوام: [ليحذر الخوض في الأصول فإنهم لا يفهمون ذلك، لنه يوجب الفتن، وربما كفروه مع كونهم جهلة] الآداب الشرعية ٢/٨٧. وقال ابن مفلح المقدسي الحنبلي: [ومن التغفيل تكلم القصاص عند العوام الجهلة بما لا ينفعهم، وإنما ينبغي أن يخاطب الإنسان على قدر فهمه ومخاطبة العوام صعبة، فإن أحدهم ليرى رأياً يخالف فيه العلماء ولا ينتهي ... فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل ... فاحذر العوام كلهم، والخلق جملة ... ] الآداب الشرعية ٢ / ٨٧-٨٨. ومع أن المقام لا يتسع لتفصيل صفات الخطيب الناجح، فقد كتبت فيه مؤلفات، فلا بد أن أذكر أن من عوامل نجاح الخطيب أن لا يتعرض للأمور الخلافية المحتملة، وأن لا يتعصب لرأيه، وأن يبتعد عن التجريح للأشخاص والجماعات مع التصريح بأسمائهم، فلا شك أن هذا على خلاف الهدي النبوي فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة أنه كان يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) – كما في البخاري ومسلم وكتب السنن - دون أن يذكرهم بأسمائهم.
وخلاصة الأمر أن خطبة الجمعة فريضة، وأنه لا يجوز لأحد أن يترك حضور خطبة الجمعة عمداً، لأن خطيب الجمعة لا يعجبه، أو أن خطيب الجمعة يطرح أموراً بعيدة عن واقع الأمة، فالأمة تذبح من الوريد إلى الوريد وهو يتحدث عن خطأ يقع فيه أحد المصلين، فلكل مقام مقال، ولا بد من الاهتمام بخطبة الجمعة، وأن يعاد تأهيل من يصعدون المنابر تأهيلاً علمياً صحيحاً حتى يستحقوا وصف خطيبٍ حقيقةً لا مجازاً.