يقول السائل: عندي أرضٌ صالحةٌ للزراعة في قريتي، وأنا أعيش في المدينة حيث أعمل، فهل يجوز تأجيرها بمبلغ معلوم من النقود عن كل سنة، أفيدونا؟
الجواب: تأجير الأرض الزراعية جائز شرعاً سواء أجرها صاحبها بمبلغ من النقود أو أجرها بنسبة شائعة مما يزرع فيها كالربع والثلث من إنتاجها، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو قول الأئمة الأربعة وأتباعهم، قال الإمام ابن المنذر:[وأجمعوا على أن اكتراء الأرض بالذهب والفضة وقتاً معلوماً جائز، وانفرد طاووس والحسن فكرهاها.] كتاب الإجماع١/٣٥. وهذا قول المحققين من أهل العلم الذين دفعوا التعارض بين الأحاديث الواردة في المسألة، قال الإمام البخاري في صحيحه:[باب كراء الأرض بالذهب والفضة ثم ذكر عن ابن عباس أنه قال: إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء من السنة إلى السنة. ثم روى بإسناده عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال حدثني عمَّايَ أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء - جمع ربيع وهو النهر الصغير - أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم، فقال رافع: ليس بها بأس بالدينار والدرهم. وقال الليث وكان الذي نهى عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة] وورد في رواية أخرى عن رافع عند مسلم (كنا أكثر الأنصار حقلاً قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا - النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأما الورق - الفضة - فلم ينهنا.) ، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [كأنه أراد بهذه الترجمة الإشارة إلى أن النهي الوارد عن كراء الأرض محمولٌ على ما إذا أكريت بشيء مجهول وهو قول الجمهور، أو بشيء مما يخرج منها ولو كان معلوماً، وليس المراد النهي عن كرائها بالذهب أو الفضة. وبالغ ربيعة فقال: لا يجوز كراؤها إلا بالذهب أو الفضة، وخالف في ذلك طاووس وطائفة قليلة فقالوا: لا يجوز كراء الأرض مطلقاً، وذهب إليه ابن حزم وقواه واحتج له بالأحاديث المطلقة في ذلك، وحديث الباب دالٌ على ما ذهب إليه الجمهور، وقد أطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة، ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه، وقد روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال:(كان أصحاب المزارع يكرونها بما يكون على المساقي من الزرع، فاختصموا في ذلك، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال: أكروا بالذهب والفضة) ورجاله ثقات] فتح الباري ٥/٣٢، وقال الحافظ أيضاً:[وكلام الليث هذا موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة، لا عن كرائها مطلقاً حتى بالذهب والفضة] فتح الباري ٥/٣٣-٣٤. وقال العلامة الألباني عن حديث سعد السابق بأنه حديث حسن بشواهده في الباب، كما في صحيح وضعيف سنن النسائي، وما سبق يدل على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، وأما إجارتها بنسبة شائعة كالثلث والنصف ونحو ذلك فمما يدل عليه ما قاله الإمام البخاري في صحيحه:[باب المزراعة بشطر ونحوه. وقال قيس عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن ابن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا) وهذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث كما بينه الحافظ ابن حجر في الفتح فتح الباري ٥/ ٤٠٧-٤٠٨. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام البخاري السابق: [فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا، لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم يزارعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أجلى عمر اليهود إلى تيماء] مجموع الفتاوى ٢٩/٧٩. وقال العلامة ابن القيم:[وهذه – المزارعة – أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبقَ في المدينة أهل بيت حتى عملوا به وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخاً لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به فنسخ هذا من أمحل المحال] شرح ابن القيم على سنن أبي داود ٩/١٨٤. ومما يدل أيضاً على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، ما ورد في الحديث عن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال:(سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلومٌ مضمونٌ فلا بأس به) رواه مسلم، والماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه. وإقبال الجداول: أوائل السواقي. قال الإمام النووي:[ ... وأما الشافعي وموافقوه فاعتمدوا بصريح رواية رافع بن خديج وثابت بن الضحاك السابقين في جواز الإجارة بالذهب والفضة ونحوهما وتأولوا أحاديث النهى تأويلين: أحدهما حملها على إجارتها بما على الماذيانات أو بزرع قطعة معينة أو بالثلث والربع ونحو ذلك كما فسره الرواة في هذه الأحاديث التي ذكرناها، والثاني: حملها على كراهة التنزيه والإرشاد إلى إعارتها كما نهى عن بيع الغرر نهى تنزيه بل يتواهبونه ونحو ذلك، وهذان التأويلان لابد منهما أو من أحدهما للجمع بين الأحاديث، وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاري وغيره ومعناه عن بن عباس] شرح النووي على صحيح مسلم ١٠/١٩٨. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:[المراد بذلك الكراء الذي كانوا يعتادونه من الكراء والمعاوضة اللذين يرجع كل منهما إلى بيع الثمرة قبل أن تصلح، وإلى المزارعة المشروط فيها جزء معين، وهذا نهي عما فيه مفسدة راجحة.] مجموع الفتاوى ٢٩/٨٧. ومما يدل أيضاً على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، ما ورد في الحديث عن رافع بن خديج قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، وقال إنما يزرع ثلاثةٌ: رجلٌ له أرضٌ فهو يزرعها، ورجل مُنح أرضاً فهو يزرع ما منح، ورجلٌ استكرى أرضاً بذهب أو فضة) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود ٢/٦٥٢. وغير ذلك من الأدلة. وبعد هذا العرض والبيان يظهر لنا ضعف قول القائلين من المعاصرين بمنع تأجير الأراضي الزراعية منعاً مطلقاً، كما ورد في مشروع دستور حزب التحرير المادة رقم ١٣١ [يمنع تأجير الأرض للزراعة مطلقاً سواء أكانت خراجية أم عشرية، كما تمنع المزارعة] ، وأن هذا المنع لا يستند إلى دليل صحيح معتبر، وأن هذا المنع يتعارض مع الأصول والقواعد المقررة في نظام المعاملات في الفقه الإسلامي، كما أنه يتعارض مع الأحاديث الصحيحة التي سبق ذكر بعضها، ولا بد من الإشارة إلى أن من أراد أن يضع دستوراً عاماً للمسلمين ويُدخل فيه أمثال هذه المسألة، فلا بد أن يدرس المسائل الفقهية دراسة عميقة، وأن يدرس جميع النصوص الواردة في المسألة قبل أن يُصدر حكمه!! إذا تقرر جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، فإن النقود الورقية تقوم مقام الذهب والفضة وتأخذ أحكامهما فتثبت لها صفة الثمنية، كما ذهب إليه جماهير علماء العصر وكذا المجامع الفقهية المعتبرة، وبناءً على ذلك فإنه يجوز شرعاً تأجير الأرض الزراعية بالنقود والعملات المتداولة بشرط أن تكون الأجرة معلومة كذا أن تكون مدة الإجارة معلومة.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعاً إجارة الأرض الزراعية بالنقود الورقية بالشروط المقررة لعقد الإجارة. وأن ما ورد في بعض الأحاديث من نهي عن إجارة الأرض محمولٌ على ما فيه مخاطرة وجهالة وغرر.