للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[٢١ - أحكام كفارة اليمين.]

يقول السائل: هل يجوز للشخص أن يكفر عن يمين أو أكثر كفارة واحدة؟ وما هو مقدار الإطعام في الكفارة؟ وما هو مقدار النقود في الكفارة؟ وهل يجوز أن تعطى الكفارة لشخص واحد أم يجب تفريقها على عشرة مساكين؟

الجواب: إذا حلف المسلم يميناً ثم حنث بها فتجب الكفارة في حقه وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم. وسواء كفر عن يمينه قبل الحنث أو بعده فإن ذلك جائز على الراجح من أقوال أهل العلم. والأصل أن الكفارة تكون عن اليمين الواحدة ولكن هنالك حالات قال الفقهاء تتداخل فيها الكفارة فتجزئ الكفارة الواحدة عن الأيمان المتعددة فمن ذلك: إذا حلف شخص أيماناً مكررة على شيء واحد كأن يحلف قائلاً: والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام. فإذا حنث بهذه الأيمان فتلزمه كفارة واحدة فقط على الراجح من أقوال العلماء وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية وهو قول الحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري وعروة بن الزبير وهو قول إسحاق بن راهويه والإمام الأوزاعي وابن حزم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. المغني ٩/٥١٤، المحلى ٦/٣١٢، الاستذكار ١٥/٨٢. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن ابن جريج قال: حدثت أن ابن عمر قال لغلام له ومجاهد يسمع وكان يبعث غلامه ذاك إلى الشام: [إنك تزمن عند امرأتك (أي تطيل المكث) فطلقها. فقال الغلام: لا. فقال ابن عمر: والله لتطلقنها. فقال الغلام: والله لا أفعل، حتى حلف ابن عمر ثلاث مرات لتطلقنها وحلف العبد أن لا يفعل. فقال ابن عمر: غلبني العبد. قال مجاهد: فقلت لابن عمر: فكم تكفرها؟ قال: كفارة واحدة] المصنف ٨/٥٠٣-٥٠٤، ورواه ابن حزم في المحلى ٦/٣١٢، وقال التهانوي: سنده صحيح، إعلاء السنن ١١/٤٧١. وقال البيهقي: [ويذكر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقسم مراراً فكفر كفارة واحدة] سنن البيهقي ١٠/٥٦.

وروى عبد الرزاق بإسناده أن إنساناً استفتى عروة بن الزبير فقال: [يا أبا عبد الله إن جارية لي قد تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها، فأكفر كفارة واحدة أو كفارات متفرقات؟ قال: هي كفارة واحدة] المصنف ٨/٥٠٤-٥٠٥. وقال التهانوي: [أخرجه ابن حزم ن طريق عبد الرزاق وسنده صحيح] إعلاء السنن ١١/٤٧٢. وأما إذا حلف شخص أيماناً متعددة على أشياء متعددة كأن يقول: والله لا أزورك والله لا أكلمك والله لا أزوجك. فهذه أيمان متعددة على أمور مختلفة فإذا حنث بها جميعاً فتلزمه عن كل يمين كفارة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول جمهور الفقهاء.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن حلف أيماناً على أجناس فقال: والله لا أكلت والله لا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى ... ورواه المروزي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم] المغني ٩/٥١٥. ثم قال ابن قدامة: [ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى] المغني ٩/٥١٥. وأما مقدار الإطعام في الكفارة فينبغي القول أولاً بأن خصال الكفارة على التخيير كما قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية ٨٩. فخصال الكفارة هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة فإذا عجز الحانث عن هذه الخصال الثلاث انتقل إلى الصوم. وأما مقدار الإطعام فقال: جمهور أهل العلم يطعم كل مسكين مداً بمقدار مدّ النبي صلى الله عليه وسلم من غالب قوت البلد. فقد ذكر مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدً من حنطة. وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي صلى الله عليه وسلم] الاستذكار ١٥/٨٧-٨٨. والمد يساوي في زماننا نصف كيلو وزيادة قليلة. ويرى بعض العلماء أنه يكفي في الإطعام أن يطعم المساكين العشرة وجبتي غداء وعشاء. قال الإمام مالك: [إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه] الاستذكار ١٥/٨٩. ويجوز إخراج قيمة الطعام والكسوة في الكفارة على أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الحنفية والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام. لأن من مقاصد الكفارة بالإضافة إلى تكفير ذنب الحانث سد حاجة المسكين وسد الحاجة يقع بالقيمة كما يقع بالإطعام والكسوة بل لعل الأنفع للمسكين في زماننا أن يعطى القيمة فهي أقرب لسد حاجته فالمسكين ينتفع بالنقود أكثر من انتفاعه بالقمح أو الأرز أو الطبيخ فيستطيع المسكين أن يقضي حاجاته وحاجات أسرته ومصالحهم بالنقود.

وأما إعطاء الكفارة لشخص واحد فظاهر الآية الكريمة يدل على إطعام عشرة مساكين وليس إطعام مسكين واحد وهذا قول أكثر العلماء أنه لا يجزئ إعطاء مسكين واحد بل لا بد من إطعام عشرة مساكين وقال الإمام الأوزاعي يجوز أن يعطيها لمسكين واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز بدليل أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع في رمضان حين أخبره بشدة حاجته وحاجة أهله: أطعمه أهلك] متفق عليه، انظر المغني ٩/٤٤٣. وهذا الرأي يظهر لي أنه الأقوى في المسألة، فإذا أعطى الكفارة أو قيمتها لعائلة محتاجة فأرجو أن يجزئه إن شاء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>