[٢ - الرد على الفتاوى التي تجيز الإفطار للاعبي كرة القدم]
يقول السائل: كما تعلمون فإن شهر رمضان المبارك لهذا العام قد حلَّ في شدة الصيف وأنا أشتغل في البناء وأتعرض لأشعة الشمس وأجد مشقة في الصوم، فهل يجوز لي أن أفطر، أفيدونا؟
الجواب: من المعلوم أن صوم شهر رمضان ركنٌ من أركان الإسلام وفُرضَ صيامُه على جميع المكلفين من المسلمين بالإجماع، ولقول الله تعالى:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} سورة البقرة الآية ١٨٥، والذين يجوز لهم الفطر، هم من أذن لهم الشارع الحكيم بالفطر، كما في حالتي المريض والمسافر، قال تعالى {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} سورة البقرة الآية ١٨٥. ويجب أن يُعلمَ أن العمل ولو كان شاقاً ليس من الأعذار التي تبيح الفطر، ويجب على العامل أن يصوم ويجتهد في ذلك ويتحمل المشقة المعتادة، لأن التكاليف الشرعية ومنها الصيام لا تخلو من المشقات، وليست كل مشقة مبيحة للفطر، فإن العلماء قسموا المشقة إلى قسمين: مشقةٌ معتادةٌ يتحملها الناس عادة، ولا تخلو منها التكاليف الشرعية، كالوضوء بالماء البارد وكالصوم في اليوم الحارّ والحج في أشهر الصيف وغيرها، فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات ولا في تخفيفها، كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ٢/٧. ومشقةٌ غير معتادة لا يستطيع الناس أن يداوموا عليها باستمرار كالوصال في الصوم وقيام الليل كله باستمرار ونحو ذلك. وبناءً على ما تقدم أقول لا يجوز للإنسان أن يفطر في رمضان إلا إذا لحقه أذى شديد بسبب الصوم، فالمريض الذي منعه الأطباء من الصوم، لأن الصوم يزيد المرض أو يؤخر الشفاء، يجوز له الفطر، وأما أصحاب المهن والعمال كالنجار والحداد والخباز والحجَّار، فعليهم أن يصوموا ولا يجوز لهم الفطر، لأن هؤلاء قد اعتادوا على مهنتهم وصارت حياتهم منسجمة تماماً مع أعمالهم، فالخباز الذي يقف أمام بيت النار يومياً صار ذلك بالنسبة له شيء عادي فلا يجوز له أن يفطر. والذين يدَّعون أنهم يعملون في أشغال شاقة كما في السؤال بإمكانهم أن يأخذوا إجازة من عملهم في شهر رمضان أو أن يبحثوا عن أعمال أخرى لا مشقة شديدة فيها، فإن لم يتيسر لهم ذلك واضطروا للعمل كما يضطر الإنسان إلى أكل الميتة، فإن عليهم أن يصوموا، فإذا شعروا بالحرج والضيق من الصوم، أفطروا ثم أمسكوا بقية يومهم وعليهم القضاء فيما بعد. ورد في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ما يلي: [من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن صيام شهر رمضان فرض على كل مكلف وركن من أركان الإسلام، فعلى كل مكلف أن يحرص على صيامه تحقيقاً لما فرض الله عليه، رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه دون أن ينسى نصيبه من الدنيا، ودون أن يُؤثر دنياه على أخراه، وإذا تعارض أداء ما فرضه الله عليه من العبادات مع عمله لدنياه وجب عليه أن ينسق بينهما حتى يتمكن من القيام بهما جميعاً، ففي المثال المذكور في السؤال – عملٌ شاقٌ في نهار رمضان - يجعل الليل وقت عمله لدنياه، فإن لم يتيسر ذلك أخذ إجازة من عمله شهر رمضان ولو بدون مرتب، فإن لم يتيسر ذلك بحث عن عملٍ آخر يمكنه فيه الجمع بين أداء الواجبين ولا يؤثر جانب دنياه على جانب آخرته، فالعمل كثير، وطرق كسب المال ليست قاصرة على مثل ذلك النوع من الأعمال الشاقة، ولن يعدم المسلم وجهاً من وجوه الكسب المباح الذي يمكنه معه القيام بما فرضه الله عليه من العبادة بإذن الله، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سورة الطلاق الآيتان ٢-٣. وعلى تقدير أنه لم يجد عملاً دون ما ذكر مما فيه حرج وخشي أن تأخذه قوانين جائرة وتفرض عليه ما لا يتمكن معه من إقامة شعائر دينه أو بعض فرائضه فليفر بدينه من تلك الأرض إلى أرض يتيسر له فيها القيام بواجب دينه ودنياه ويتعاون فيه مع المسلمين على البر والتقوى فأرض الله واسعة، قال الله تعالى {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} سورة النساء الآية ١٠٠، وقال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} سورة الزمر الآية ١٠ فإذا لم يتيسر له شيء من ذلك كله واضطر إلى مثل ما ذكر في السؤال من العمل الشاق صام حتى يحس بمبادئ الحرج فيتناول من الطعام والشراب ما يحول دون وقوعه في الحرج، ثم يمسك وعليه القضاء في أيام يسهل عليه فيها الصيام] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ١٠/ ٢٣٤-٢٣٦. ويجب أن يُعلم أنه قد صدرت بعض الفتاوى المتساهلة في السماح بالفطر لأعذار غير معتبرة شرعاً، كما في الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية بإباحة الفطر في نهار رمضان للاعبي كرة القدم أثناء المباريات الرسمية، بحجة أن اللاعب المرتبط بعقد مع ناديه مثل الأجير الملزم بأداء عملٍ معين، وفي حال تأثر العمل بالصوم فإن له رخصة للإفطار. وجاء في الفتوى المشار إليها:[اتفق العلماء على أنه يجوز الفطر للأجير أو صاحب المهنة الشاقة الذي يعوقه الصوم أو يُضعِفه عن عمله، كما نُصَّ على ذلك في فقه الحنفية على أن من آجر نفسه مدة معلومة - وهو متحقق هنا في عقود اللعب والاحتراف- ثم جاء رمضان وكان يتضرر بالصوم في عمله فإن له أن يفطر وإن كان عنده ما يكفيه] . وصدرت فتوى عن أحد المشايخ السعوديين أباح فيها الفطر بسبب انقطاع التيار الكهربائي!! وأقول إن هذه الفتاوى ما هي إلا تمييع للأحكام الشرعية، فمتى كان اللعب من الأسباب المبيحة للفطر؟! ولعبة كرة القدم نوعٌ من اللهو والترفيه، واللهو ليس من أسباب الترخص بالفطر، حتى لو كانت المباريات رسمية، فإنها لا تخرج عن هذا الإطار، وأما عن ارتباط اللاعب بعقد مع النادي الذي يلعب معه، فهذا العقد ليس مبرراً للفطر، لأن بإمكان اللاعب أن يشترط في العقد احترام شعائره الدينية، وإذا ترتب على العقد الإخلال بالفرائض الدينية فيحرم على اللاعب أن يوقعه. وكذلك فإن جعل انقطاع التيار الكهربائي سببٌ مبيحٌ للفطر، نوع من التساهل في الفتوى ترده أصول الإفتاء الصحيح، حتى لو لحقت بالناس مشقة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، لأن هذه المشقة محتملة، ولنا أن نسأل متى دخلت الكهرباء لبلاد المسلمين؟ وكيف كان المسلمون يصومون قبل معرفة الكهرباء في قيظ الصيف في المناطق الحارة كجزيرة العرب؟ أم أننا نريد صوماً خالياً من أدنى مشقة – صوم خمس نجوم، لا شك أن هذه الفتاوى لم تقم على أدلة معتبرة، ولا على فهمٍ صحيحٍ للأدلة، ولا على فهم مقاصد الشارع الحكيم، وأسوق هنا كلاماً طيباً لبعض العلماء في تبيان مقاصد الصيام، يقول العلامة ابن القيم: [لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ... وللصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الردئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(الصومُ جُنَّة) وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام وجعله وجاءَ هذه الشهوة. والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمةً بهم وإحساناً إليهم وحميةً لهم وجنة] زاد المعاد ٢/٢٨-٣٠. ويقول الكمال بن الهمام الحنفي عن الصوم:[هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجباً شيئين: أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، وما عن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها: كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألمٍ باطنٍ فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال ما عند الله تعالى من حسن الجزاء. ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً، وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى] فتح القدير٢/٢٣٣. وقد ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي [سئل بعض السلف: لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع.] لطائف المعارف ص ٣١٤.
وخلاصة الأمر أن العمل الشاق بمجرده ليس من الأعذار المبيحة للفطر، والعمال مكلفون بالصيام كغيرهم، ولا يحل لهم الفطر إلا إذا لحقت بهم المشقة الشديدة، ويجب الحذر من فتاوى المتساهلين التي تبيح الفطر لغير عذر شرعي معتبر كإباحة الفطر للاعبي كرة القدم ولمن انقطع عنهم التيار الكهربائي.