للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[١٠٧ - صلاة الاستخارة]

يقول السائل: هل تشرع صلاة الاستخارة لمن أراد أن يتقدم لخطبة فتاة مع أن الزواج كما يقولون قسمة ونصيب. وإذا صلى الاستخارة فمتى يدعو وهل يصح أن يستخير عن غيره أو يستخير له غيره؟

الجواب: من الثابت عند أهل العلم أنه يشرع للمسلم قبل الإقدام على أمر لم يظهر له فيه وجه الصواب أن يستخير وأن يستشير والاستخارة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع حديث ورد فيها هو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول لنا: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ثم يسميه بعينه خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت أتعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال: ويسمي حاجته] رواه البخاري والنسائي والترمذي. ووردت أحاديث أخرى في الاستخارة فيها كلام لأهل الحديث منها: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم استخارته الله عز وجل ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله عز وجل) رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ١١/٢١٩. ومنها ما ورد في الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمراً قال: (اللهم خر لي واختر لي) رواه الترمذي وضعفه. ومنها عن أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (اكتم الخطبة ثم توضأ فأحسن وضوءك وصلِّ ما كتب الله لك ثم احمد ربك ومجده ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فإن رأيت لي في فلانة - تسميها – خيراً في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي وإن كان غيرها أحب إلي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي بها أو قل: فاقدرها لي) رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر. وهذه الأحاديث وإن كان في سند كل منها كلام لأهل الحديث إلا أنها تتقوى بحديث جابر السابق وغيره من الشواهد. وهذه الأحاديث تدل على مشروعية الاستخارة. والاستخارة هي البديل الشرعي عن التوجه إلى المنجمين والسحرة والكهنة الذين يزعمون معرفة الغيب. قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر حديث جابر السابق: [فعوَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بهذا الدعاء عما كان عليه أهل الجاهلية من زجر الطير والاستقسام بالأزلام الذي نظيره هذه القرعة التي كان يفعلها إخوان المشركين يطلبون بها علم ما قسم لهم في الغيب ولهذا سمي ذلك استقسام وهو استفعال من القسم والسين فيه للطلب وعوضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيد وافتقار وعبودية وتوكل وسؤال لمن بيده الخير كله الذي لا يأت بالحسنات إلا هو ولا يصرف السيئات إلا هو الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطع أحد حبسها عنه وإذا أمسكها لم يستطع أحد إرسالها إليه من التطير والتنجيم واختيار الطالع ونحوه. فهذا الدعاء هو الطالع الميمون السعيد طالع أهل السعادة والتوفيق الذين سبقت لهم من الله الحسنى لا طالع أهل الشرك والشقاء والخذلان الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون. فتضمن هذا الدعاء الإقرار بوجوده سبحانه والإقرار بصفات كماله من كمال العلم والقدرة والإرادة والإقرار بربوبيته وتفويض الأمر إليه والاستعانة به والتوكل عليه والخروج من عهدة نفسه والتبري من الحول والقوة إلا به واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها وإرادته لها وأن ذلك كله بيد وليه وفاطره وإلهه الحق] زاد المعاد ٢/٤٤٣-٤٤٤. والاستخارة مشروعة في الأمور المباحة التي يشكل على الإنسان فيها وجه الخير ومنها الزواج فيشرع للإنسان قبل أن يقدم على الزواج الاستخارة ويدل على ذلك حديث أبي أيوب السابق ويدل عليه أيضاً ما ورد في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش كما رواها أنس رضي الله عنه: [لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها عليَّ، قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن ... إلخ الحديث) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [قولها (ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها) أي موضع صلاتها من بيتها، وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمر سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا وهو موافق لحديث جابر في صحيح البخاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها يقول: (إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة إلى آخره) ولعلها استخارت لخوفها من تقصيرٍ في حقه صلى الله عليه وسلم] شرح النووي على صحيح مسلم ٣/٥٦٦. والاستخارة في الزواج من باب التوكل على الله سبحانه وتعالى ولا تعارض بين الاستخارة وأن الزواج مقدر من الله سبحانه وتعالى فإن الإنسان لا يدري ما هو المقدر له إلا بعد وقوعه. قال العلامة ابن القيم: [فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين: التوكل الذي هو مضمون الاستخارة قبله والرضى بما يقضي الله له بعده وهما عنوان السعادة وعنوان الشقاء يكتنفه ترك التوكل والاستخارة قبله والسخط بعده والتوكل قبل القضاء فإذا أبرم القضاء وتم انتقلت العبودية إلى الرضى بعده كما في المسند وزاد النسائي في الدعاء المشهور: (وأسألك الرضى بعد القضاء) وهذا أبلغ من الرضى بالقضاء فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاء تنحل العزيمة فإذا حصل الرضى بعد القضاء كان حالاً أو مقاماً. والمقصود أن الاستخارة توكل على الله وتفويض إليه واستقسام بقدرته وعلمه وحسن اختياره لعبده وهي من لوازم الرضى به رباً الذي لا يذوق طعم الإيمان من لم يكن كذلك وإن رضي بالمقدور بعدها فذلك علامة سعادته] زاد المعاد ٢/٤٤٤-٤٤٥. وأما بالنسبة لمحل الدعاء في صلاة الاستخارة فيكون بعد الانتهاء من صلاة الركعتين مباشرة وهو ظاهر في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: (... فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول) وكون الدعاء بعد الصلاة هو الأولى. وأجاز بعض أهل العلم أن يكون الدعاء أثناء السجود في الصلاة قال الحافظ ابن حجر: [هو ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء فإن موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد. وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً] والأصل في الاستخارة أن يفعلها كل إنسان لنفسه فإنها صلاة والأصل أن كل إنسان يصلي لنفسه ولا يصلي أحد عن أحد، ويدل على ذلك ما ورد في حديث جابر من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين) ، ولكن يجوز للإنسان أن يدعو لغيره والدعاء أمره واسع. وأخيراً أنبه أن بعض الناس يظن أنه بعد الاستخارة لا بد أن يرى رؤية وهذا الكلام ليس بصحيح فإن العلماء قد نبهوا قديماً وحديثاً على أنه لا يشترط في الاستخارة أن يرى المستخير رؤيا ولكن الله تعالى يحدث في قلبه جنوحاً أو ميلاً إلى جانب ينشرح به صدره ويستقر عليه. انظر حديث صلاة الاستخارة ص٦٢.

وخلاصة الأمر أن الاستخارة مشروعة عند الزواج وغيره من الأمور وأن الاستخارة في حقيقتها من باب التوكل على الله سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>