يقول السائل: أرجو توضيح قاعدة العمل بالحديث الضعيف إذا تعددت طرقه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الله سبحانه وتعالى قد حفظ لهذه الأمة كتابها - القرآن الكريم - حيث قال جل جلاله:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) سورة الحجر الآية ٩. كما أن السنة النبوية قد حفظت حفظاً إجمالياً فقد هيأ الله جل جلاله العلماء الأعلام لحفظ السنة النبوية من التحريف والتزوير والتغيير والتبديل فوضعوا لنا علم الحديث وما تفرع عنه من علوم لخدمة السنة النبوية والدفاع عنها وتنقيتها مما دخلها وليس منها كالإسرائيليات والأحاديث الموضوعة المكذوبة. فعلم الحديث هو علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن كما عرفه الشيخ عز الدين بن جماعه كما في تدريب الراوي ١/٤١. بهذه القواعد الحاكمة لدراسة السند والمتن وبجهود علماء أهل الحديث العظيمة جزاهم الله خير الجزاء حفظت السنة النبوية. قال الشيخ جمال الدين القاسمي:[من أين للبليغ أن يحصي أيادي المحدثين وهم الذين عشقوا الهدي النبوي دون العالمين فتتبعوه ممن بدا وحضر وكابدوا لأخذه أهوال السفر! فكم جابوا صحارى تتلظى تلظي الرمضاء وقطعوا عن العمران فيافي تستدعي اليأس وتروع الأحشاء! فحفظوا ووعوا ولعهد النفر للتفقه في الدين رعوا ودافعوا عن الدين صنع الوضاعين وانتحال المفترين وذبّوا الكذب عن كلام الرسول الصادق بما مهدوه من تحري كل راوٍ موافق فدونوا ما سمعوه بالسند فراراً عن الرمي باتباع الأهواء وتحكيم الآراء فاستبرؤا لدينهم بجليل هذا الاحتياط ودربوا الأمة على التثبت في توثيق عرى الارتباط! رحماك اللهم! فالاعتراف بمآثرهم الحسنة أمر واجب وشكر فضلهم لا يقصر عنه إلا من هو عن الاتباع ناكب. أفليست دواوينهم بعد القرآن دعائم الإسلام التي قامت عليها صروحه وأعضاد الدين التي بان منها صريحه؟ لا جرم لولا أخذهم بناصية ما دونوه من صحيح السنة لانثالت على الناس جراثيم الأباطيل المستكنة التي رزئ بها الدين في عصر الوضاعين المنافقين الذين دخلوا في دين الله للتشويش فرد الله كيدهم بتنقيب المحدثين عن خرافاتهم ودأبهم في التفتيش حتى أشرقت شموس صحاح الأخبار وأنبعثت أشعتها في الأقطار وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة فرحم الله تلك الأنفس التي نهضت لتأييد الدين ورضي عمن أحيا آثارهم من اللاحقين آمين] . قواعد التحدث ص٥٩. وقد بين أهل الحديث أن الحديث ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف. فالحديث الصحيح هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذاً ولا معللاً. وأما الحديث الحسن فهو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه غير شاذ ولا معلل. وأما الحديث الضعيف فهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح ولا صفات الحسن. انظر الباعث الحثيث ص ٤٤، ٣٧، ٢١. وقد اتفق المحدثون على الإحتجاج بالحديث الصحيح والحسن وأما الحديث الضعيف فقد اختلف العلماء في حكمه على مذاهب. [الأول: لا يعمل به مطلقاً لا في الأحكام ولا في الفضائل حكاه ابن سيد الناس في (عيون الأثر) عن يحيى بن معين ونسبه في (فتح المغيث) لأبي بكر بن العربي. والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضاً يدل عليه شرط البخاري في صحيحه وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفناه وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئاً منه وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله أيضاً حيث قال في الملل والنِحل:[ما نقله أهل المشرق والمغرب، أو كافة عن كافة، أو ثقة عن ثقة، حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في الطريق رجلاً مجروحاً بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه] . الثاني: أنه يعمل به مطلقاً قال السيوطي: [وعزي ذلك إلى أبي داود وأحمد لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال] . الثالث: يعمل به في الفضائل بشروطه الآتية وهذا هو المعتمد عند الأئمة. قال ابن عبد البر:[أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به] . وقال الحاكم:[سمعت أبا زكريا العنبري يقول: [الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكماً وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته] . ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في (المدخل) : [إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال] . ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه:[الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم] . وقال في رواية عباس الدوري عنه:[ابن اسحق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث]- يعني المغازي ونحوها - وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا - وقبض أصابع يده الأربع -] قواعد التحديث ص١١٦-١١٧. إذا تقرر هذا فإن أرجح أقوال أهل العلم في هذه المسألة هو العمل بالحديث الضعيف فيما عدا الأحكام الشرعية أي يعمل به في فضائل الأعمال بالشروط الآتية: الأول: متفق عليه وهو أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين ومن فحش غلطه. والثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. والثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. الأجوبة الفاضلة ص٤٣-٤٤. وأما قاعدة تقوية الحديث الضعيف بكثرة الطرق وهي محل السؤال فإن المحققين من أهل الحديث يرون أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها وإنما هي مقيدة ببعض القيود. قال الإمام النووي:[إذا روي الحديث من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسناً وكذا إذا كان ضعفها لإرسال زال بمجيئه من وجه آخر وأما الضعف لفسق الراوي فلا يؤثر فيه موافقة غيره] التقريب مع شرحه تدريب الراوي ١/١٧٦-١٧٧. ونقل السيوطي عن الحافظ ابن حجر:[وأما الضعيف لفسق الراوي أو كذبه فلا يؤثر فيه موافقة غيره له إذا كان الآخر مثله لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر، نعم يرتقي بمجموع طرقه عن كونه منكراً أو لا أصل له صرح به شيخ الإسلام قال: بل ربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجته المستور سيء الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن] تدريب الراوي ١/١٧٧. وقال العلامة المحدث الألباني: [من المشهور عند أهل العلم أن الحديث إذا جاء من طرق متعددة فإنه يتقوى بها ويصير حجة وإن كان كل طريق منها على إنفراده ضعيفاً ولكن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد عند المحققين منهم بما إذا كان ضعف رواته في مختلف طرقه ناشئاً من سوء حفظهم لا من تهمة في صدقهم أو دينهم وإلا فإنه لا يتقوى مهما كثرت طرقه وهذا ما نقله المحقق المناوي في (فيض القدير) عن العلماء قالوا: [وإذا قوي الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه ومن ثم اتفقوا على ضعف الحديث: [من حفظ على أمتي أربعين حديثاً] مع كثرة طرقه لقوة ضعفه وقصورها عن الجبر خلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد] ... وعلى هذا فلا بد لمن يريد أن يقوي الحديث بكثرة طرقه أن يقف على رجال كل طريق منها حتى يتبين له مبلغ الضعف فيها ومن المؤسف أن القليل جداً من العلماء من يفعل ذلك ولا سيما المتأخرين منهم فإنهم يذهبون إلى تقوية الحديث بمجرد نقلهم عن غيرهم أن له طرقاً دون أن يقفوا عليها ويعرفوا ماهية ضعفها] تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص٣١-٣٢.