[٢١ - طلاق قبل الدخول]
يقول السائل: عقد رجل على امرأة ثم طلقها قبل الدخول وبعد ذلك دخل بها بدون عقد جديد ولا مهر لأنه جاهل بالحكم، وأنجب منها أولاداً وبعد عدة سنوات طلقها طلقة، فما الحكم في ذلك، أفيدونا؟
الجواب: طلاق الرجل المذكور واقع، وبما أنه لم يدخل بزوجته حيث أوقع الطلاق قبل الدخول فهذا الطلاق يكون بائناً، لأن كل طلاق يقع قبل الدخول يكون بائناً، وعليه فيلزمه عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين، ويبقى له طلقتان. وهذا الطلاق بائن بينونة صغرى، حيث إن هذا الرجل قد طلق زوجته قبل الدخول بها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} سورة الأحزاب الآية ٤٩، وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا انتفت العدة انتفت الرجعة. وهذا ما قرره قانون الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية في بلادنا
حيث جاء في المادة ٩٤ (كل طلاق يقع رجعياً إلا المكمل للثلاث والطلاق قبل الدخول والطلاق على مال والطلاق الذي نص على أنه بائن في هذا القانون) ، وبما أن الرجل المذكور قد دخل بالمرأة بدون عقد ولا مهر جديدين، فإن نكاحه باطل لفقده شروط صحة النكاح، حيث تم بدون عقد ومهر جديدين بعد طلاقه لزوجته قبل الدخول بها، ثم إنه طلق مرة أخرى بعد عدة سنوات، وهذا الطلاق الأخير يعتبر لغواً لأنه لم يصادف محلاً، حيث إن زوجته قد بانت منه بينونة صغرى عندما طلقها قبل الدخول، وبما أنه لم يعقد عليها عقداً جديداً فلم تعد محلاً للطلاق فلذا اعتبرنا طلاقه لغواً لا أثر له، كما أن دخوله بتلك المرأة حرام شرعاً، ويجب التفريق بينهما فوراً، وأما الأولاد الذين كانوا نتيجة لهذه العلاقة المحرمة فيلحقون بأبيهم، لوجود الشبهة،.
إذا تقرر هذا فإن هذا الرجل والمرأة يستطيعان تصحيح الوضع الخاطئ بينهما بإنشاء عقد جديد بمهر جديد وولي وشاهدين فعلى هذا الرجل أن يراجع المحكمة الشرعية في بلده لإتمام ذلك.
ويجب أن نقرر هنا أن الأولاد الذين كانوا ثمرة هذه العلاقة المحرمة لا ذنب لهم، وإنما الذنب على الرجل والمرأة، فلذا فإن الواجب على المسلم أن يتفقه في أحكام دينه، وخاصة أمثال هذه القضايا الخطيرة، والتي لا يعذر الإنسان فيها بالجهل، العذر بالجهل ليس مقبولاً على إطلاقه عند أهل العلم بل المسألة فيها تفصيل فهنالك أمور من الدين، العلم بها فرض عين ولا يعذر المسلم بجهلها، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وانظر صحيح الترغيب والترهيب ١/١٤٠. والمقصود بالعلم الذي هو فريضة ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحدُّ هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة إن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها. قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين ١/٤٢. وقال الإمام النووي: [... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها] المجموع ١/٤٢.
فهذا النوع من العلم هو الذي لا يسع المسلم أن يجهله، وهو علم العامة كما قال الإمام الشافعي: [قال لي قائل: ما العِلْمُ؟ وما يَجِبُ على الناس في العلم؟ فقلت له: العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ. قال: ومِثْل ماذا؟ قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه. وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم. وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ. قال: فما الوجه الثاني؟ قلت له: ما يَنُوبُ العِباد مِن فُروع الفرائض، وما يُخَصُّ به مِن الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نصُّ كتاب، ولا في أكثره نصُّ سنَّة، وإن كانت في شيء منه سنةٌ فإنما هي مِن أخْبار الخاصَّة، لا أخبارِ العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُسْتَدْرَكُ قِياسًا.] الرسالة ص ٣٥٧-٣٥٩. وقال جلال الدين السيوطي: [كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنا والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم.] الموسوعة الفقهية الكويتية ١٦/١٩٩. وما يدل على أن المسلم لا يعذر بالجهل في هذا القسم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذر الجهل من الرجل الذي أساء الصلاة فلم يعتد بصلاته فعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع يصلي كما صلى ثم جاء فسلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثاً، فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً وافعل ذلك في صلاتك كلها) رواه البخاري ومسلم. ويدخل في هذا القسم حكم الطلاق قبل الدخول فهذا الحكم لا يعذر المسلم بالجهل به بشكل عام ما دام يعيش في ديار الإسلام. وهنالك حالات يعذر فيها المسلم بالجهل كمن يجهل دقائق المسائل الفقهية كالفرعيات في الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها فقد عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي بال في المسجد كما ورد في الحديث عن أبي هريرة أن أعرابياً بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء أو سجلاً من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري ومسلم، وكما عذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي أحرم في ملابس مطيبة فعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة عليه جبة وعليها خلوق أو قال أثر صفرة فقال كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ... قال أين السائل عن العمرة اغسل عنك أثر الصفرة أو قال أثر الخلوق واخلع عنك جبتك واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) رواه البخاري ومسلم.
وقد فصل العلامة محمد العثيمين مسألة العذر بالجهل فقال: [الجهل نوعان: جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار. فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة: منها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشر سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي. وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.] القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ العثيمين.
وقال الإمام القرافي: [القاعدة الشرعية دلّت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كآفّة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلاً فقد عصى معصيتين لتركه واجبين] الفروق ٤/٢٦٤.
وخلاصة الأمر أن طلاق الرجل المذكور في السؤال قد وقع قبل الدخول وهو طلاق بائن وبما أنه دخل بالمرأة بدون عقد ومهر جديدين فقد وقع في الحرام، وطلاقه الثاني لغو لأنه لم يصادف محلاً، وعليه إنشاء عقد زواج جديد، وعليه أن يتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة، وأما الأولاد فلا ذنب لهم ويلحقون بأبيهم وجهل الرجل في هذه المسألة غير مقبول.