٦٩ - تشويه مُحيا شهر رمضان المبارك بالمعاصي والآثام
يقول السائل: قرأت في كتاب أن بعض الفقهاء أبطلوا الصوم بالمعاصي كالغيبة والنميمة، فما مدى صحة هذا القول، أفيدونا؟
الجواب: تزكية النفوس أحد مقاصد الصيام، وعلى ذلك دلَّت نصوص الكتاب والسنة، قال الله سبحانه وتعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)"ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي، فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى، أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى. وبناءً على ذلك فلا بد من صوم الجوارح عن المعاصي والآثام بالإضافة للامتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة، فاللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، واليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات، والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله وهكذا. وقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وصححه العلامة الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائمٍ ليس له بصيامه إلا الجوع، ورب قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر) رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري، وصححه العلامة الألباني. وفي رواية أخرى:(رب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائمٍ حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(ليس الصيام من الشراب والطعام وحده، ولكنه من الكذب والباطل واللغو) ، وعن علي رضي الله عنه قال:(الصيام ليس من الطعام والشراب ولكن من الكذب والباطل واللغو) ، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه:(إذا صمتَ فليصُم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمأثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء) ، وقال أبو ذر رضي الله عنه:(إذا صمت فتحفظ ما استطعت) . وكان أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المساجد، وقالوا:(نطهر صومنا) . روى هذه الآثار ابن أبي شيبة في المصنف ٢/٤٢٢. ونقل ابن رجب الحنبلي عن بعض السلف قوله:[أهون الصيام ترك الشراب والطعام] لطائف المعارف ص٢٩٢. ولا شك أن الصوم الحقيقي الذي أراده الله عز وجل يؤدي إلى كسر شهوات النفس حتى تصفو لطاعة الله تعالى، قال الإمام الكمال بن الهمام عن حكمة مشروعية الصوم:[هذا ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، شرعه سبحانه لفوائد أعظمها: كونه موجباً شيئين: أحدهما عن الآخر سكون النفس الأمارة، وكسر سَورَتِها- سورة النفس: حدتها وهيجانها وسطوتها - في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساتها، ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء وإذا شبعت جاعت كلها، وما عن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدوراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات. ومنها: كونه موجباً للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألمٍ باطنٍ فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال بذلك ما عند الله من حسن الجزاء. ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون أحياناً وفي ذلك رفع حاله عند الله تعالى.] شرح فتح القدير ٢/٤٥. وقال أبو حامد الغزالي: [اعلم أن الصوم ثلاث درجات، صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. وأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص، فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية ... وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل ... الثاني حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان ... الثالث كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله، حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى:{سماعون للكذب أكالون للسحت} وقال عز وجل: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} ... الرابع كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرِجل عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام ... الخامس أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام ... السادس أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها ... ] إحياء علوم الدين ١/٤٥٤.
إذا تقرر هذا فإن بعض الفقهاء قد قالوا: إن فعل المعاصي يبطل الصوم، وقد نقل هذا القول عن جماعة من السلف، وبه قال إبراهيم النخعي والأوزاعي واختاره الشيخ ابن حزم الظاهري. قالت حفصة بنت سيرين:(الصيام جُنَّة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة) ، وعن أبي العالية قال:(الصائم في عبادة ما لم يغتب) . وقال إبراهيم النخعي كانوا يقولون:(الكذب يفطِّر الصائم) ، وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: [مسألة: ويبطل الصوم أيضاً تعمد كل معصية - أي معصية كانت، لا نحاش شيئاً - إذا فعلها عامداً ذاكراً لصومه، كمباشرة من لا يحل له من أنثى أو ذكر، أو تقبيل امرأته وأمته المباحتين له من أنثى أو ذكر، أو إتيان في دبر امرأته أو أمته أو غيرهما، أو كذب، أو غيبة، أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم، أو غير ذلك من كل ما حرم على المرء فعله؟ برهان ذلك ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ، ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله؟ فليقل: إني صائم) ... وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ... وعن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأتين صائمتين تغتابان الناس فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً ولحماً عبيطاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ها إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام) - رواه أحمد وهو حديث ضعيف كما في المسند بتحقيق شعيب الأرنؤوط - قال أبو محمد- ابن حزم -: فنهى عليه الصلاة والسلام عن الرفث والجهل في الصوم، فكان من فعل شيئاً من ذلك- عامداً ذاكراً لصومه - لم يصم كما أمر، ومن لم يصم كما أمر، فلم يصم، لأنه لم يأت بالصيام الذي أمره الله تعالى به، وهو السالم من الرفث والجهل، وهما اسمان يعمَّان كل معصية؛ وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من لم يدع القول بالباطل - وهو الزور - ولم يدع العمل به فلا حاجة لله تعالى في ترك طعامه وشرابه. فصح أن الله تعالى لا يرضى صومه ذلك ولا يتقبله، وإذا لم يرضه ولا قبله فهو باطل ساقط؛ وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المغتابة مفطرة وهذا ما لا يسع أحداً خلافه؟ ... وبهذا يقول السلف الطيب ... ] المحلى ٤/٣٠٤-٣٠٦. والذي يظهر للمدقق فيما ساقه الشيخ ابن حزم من أدلة على بطلان الصوم بالمعاصي والآثام يرى أن هذه الأدلة لا ترتقي إلى ما قصده ابن حزم. والصحيح في هذه المسألة أن المعاصي تؤثر في الصيام بنقصان الأجر والثواب، ولكنها لا تبطله كما هو مذهب جماهير أهل العلم، قال الإمام النووي:[وقول المصنف ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، معناه يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره للحديث وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضاً ويؤمر به في كل حال، والتنزه التباعد فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه] المجموع ٦/٣٥٧.وقال السفاريني:[الفروع: ولا يفطر بالغيبة ونحوها، نقله الجماعة اتفاقاً. وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم. وذكره الموفق إجماعاً، لأن فرض الصوم بظاهر القرآن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وظاهره صحته إلا ما خصه دليل] غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب ١/١٧١. ويجدر التنبيه على حديثٍ باطلٍ يذكره بعض الناس وهو "خمس يفطرن الصائم: النظرة المحرمة والكذب والغيبة والنميمة والقبلة" فهذا الحديث لا أصل له بل هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: هذا حديثُ كَذِبٍ، وقال الإمام الزيلعي: [رواه ابن الجوزي في " الموضوعات " ... وقال: هذا حديث موضوع، وقال ابن معين: سعيد كذاب، ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيهم انتهى. وقال ابن أبي حاتم في " كتاب العلل ": سألت أبي عن حديث رواه بقية عن محمد بن الحجاج عن ميسرة بن عبد ربه عن جابان عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال:" خمس يفطرن الصائم "، فذكره، فقال أبي: إن هذا كذب، وميسرة كان يفتعل الحديث] نصب الراية ٥/٣.
وخلاصة الأمر أن تزكية الأنفس من مقاصد الصوم وأن فعل المعاصي والآثام يخل بذلك ولكنه لا يبطل الصيام بل ينقص الأجر والثواب. فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله.