[١٨٠ - لا يجوز هجر المسلم إلا لسبب شرعي]
يقول السائل: ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ...) فما موقف المسلم من أخيه المسلم الذي يأكل حقوق الناس وحقوقه ألا يجوز هجره أكثر من ثلاث ليال؟
الجواب: إن رابطة الأخوة الإيمانية التي تربط المسلم بالمسلم تمنع من هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث ليال إلا لعذر شرعي كما سأبين. يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات الآية ١٠. فإذا حصل خلاف أو تشاحن أو غضب بين مسلمين فلا يجوز هجر أحدهما للآخر أكثر من ثلاث ليال وجعلت الثلاث حداً لانتهاء الغضب وسكونه لأن الآدمي مجبول على الغضب فسمح بذلك القدر ليرجع إلى رشده بعد زوال غضبه. وقد ثبت في أحاديث كثيرة عن الرسول ا? النهي عن هجران المسلم منها:
١. عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم.
٢. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال في كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا ًإلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
٣. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي.
٤. وعن أبي خراش رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قاله الإمام النووي. رياض الصالحين ص ٦١١. ٥.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن ردَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلِّمُ من الهجرة) رواه أبو داود بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في المصدر السابق. يؤخذ من هذه الأحاديث أنه يحرم على المسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال فإذا حصلت مشاحنة بين مسلمين فيجوز الهجر أقل من ثلاث ليال ويحرم أكثر من ذلك وهذا الهجر يكون لحق الإنسان وأما هجر المسلم للمسلم لارتكابه معصية من المعاصي وهو الهجر لحق الله فهو جائز ومشروع ثلاث ليال وأكثر حتى يرجع المهجور عن المعصية ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى. قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وأما إن كانت الهجرة لأمر أنكر عليه من الدين كمعصية فعلها أو بدعة اعتقدها فيهجره حتى ينزع عن فعله وعقده فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في هجران الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله فأعلمه فعاد إليهم] عارضة الأحوذي ٨/٩١. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وقال كعب حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم: ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا وذكر خمسين ليلة] .
وقال الحافظ ابن حجر: [أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز لأن عموم النهي مخصوص لمن لم يكن لهجره سبب مشروع فبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ١٣/١٠٩. وقال الإمام مالك: [ويهجر أهل الأهواء والبدع والفسوق لأن الحب والبغض فيه واجب ولما في ذلك من الحث على الخير والتنفير من الشر والفسوق] . الذخيرة ١٣/٣١٣. وهجران أهل المعاصي مشروع وثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق في كلام البخاري في قصة هجر كعب بن مالك وذلك حدث بعد تخلف الثلاثة عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة خمسين يوماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحيهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم وهذه الرواية ثابتة في الصحيحين. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر بعض نسائه شهراً. رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام ص ٢٣٣. وهجر عبد الله بن عمر رضي الله عنه ابناً له إلى أن مات فقد روى الإمام أحمد أن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا؟ قال: فما كلمه عبد الله حتى مات) وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام ٢٣٥. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً أنواع الهجر: [النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون - الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم – حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر بالخير وإن كان منافقاً فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير. والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع] مجموع الفتاوى ٢٨/٢٠٤-٢٠٥.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمورٍ به كان خارجاً عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهوى ظانةً أنها تفعله طاعةً لله. والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فلم يرخص في هذا أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا) فهذا الهجر بحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث. فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه لأن المؤمنين إخوة] مجموع الفتاوى ٢٨/٢٠٧-٢٠٨.
وخلاصة الأمر أن على المسلم إن رأى من أخيه معصية كأكل حقوق الناس بالباطل فعليه أن ينصحه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يستجب فيجوز له أن يهجره إلى أن يقلع عن المعصية. *****