يقول السائل: ما حكم تركيب برجٍ للاتصالات فوق مئذنة المسجد، لأن مئذنة المسجد هي أعلى مبنى في بلدتنا، أفيدونا؟
الجواب: لا بد أولاً من التأكيد أن المساجد لها وضعية خاصة في دين الإسلام، ولا يجوز أن نتعامل مع المساجد كتعاملنا مع أي مبنى آخر، لأن المساجد بيوت الله عز وجل، قال الله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ? سورة النور الآيتان٣٦-٣٧. والبيوت المذكورة في الآية الكريمة هي المساجد، كما قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري ورجحه القرطبي في تفسيره ١٢/٢٦٥، وقد قرر أهل العلم أن الأصل في المساجد أنها تبنى لذكر الله تعالى وإقامة الصلاة، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} سورة الجن الآية ١٨، والمساجد لها أحكام خاصة بها وآداب لا بد من المحافظة عليها كي تبقى للمسجد هيبته وحرمته في نفوس المسلمين، لذا يمنع المسلم من فعل أمور كثيرة في المساجد مع أنه يجوز فعلها خارج المساجد، وقد ثبت في الحديث عن بريدة رضي الله عنه (أن رجلاً نشد في المسجد – أي طلب ضالةً له - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) رواه مسلم. قال الإمام النووي: [في هذين الحديثين فوائد منها: النهي عن نشد الضالة في المسجد، ويُلحق به ما في معناه من البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد ... وقوله صلى الله عليه وسلم (إنما بنيت المساجد لما بُنيت له) معناه لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها] شرح النووي على مسلم ٢/٢١٥. وقال الإمام القرطبي بعد أن ذكر حديث بريدة السابق: [وهذا يدل على أن الأصل ألا يعمل في المسجد غير الصلوات والأذكار وقراءة القرآن. وكذا جاء مفسراً من حديث أنس قال:(بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تزرمو دعوه. فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن) ... وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوت رجلٍ في المسجد فقال: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت!] تفسير القرطبي ١٢/٢٦٩. ونقل العينى عن المحب الطبري قوله:[إن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص] عمدة القاري ٦/٢٧٠. وهذه النصوص والآثار وغيرها تدل على أن المسجد له أحكامه الخاصة التي تميزه عن المباني الأخرى، ومئذنة المسجد رمز للمسجد ومن معالم المسجد الهامة، فلا ينظر إليها كمبنى مرتفع فقط، وإنما هي منارة وشعار ينطلق منها الأذان المعلن بعقيدة التوحيد، ومن القواعد المقررة شرعاً وجوب تعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: ?ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ? سورة الحج الآية ٣٢. ويقول تعالى: ?ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ? سورة الحج الآية ٣٠. قال الإمام القرطبي:[?وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ? الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم ... فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك ... ] تفسير القرطبي ١٢/٥٦. ولا شك أن المساجد داخلة في عموم شعائر الله.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز تركيب برجٍ للاتصالات فوق مئذنة المسجد، لأن ذلك يتنافى مع تعظيم المسجد كما قررت سابقاً، وفيه إخلالٌ بوقار المساجد وإهدارٌ لهيبة بيوت الله وإضعافها في نفوس الناس فوق ما هي ضعيفة مع الأسف. ويضاف إلى ذلك أن أبراج الاتصالات لا تخلو من ضررٍ صحيٍ على جمهور الناس المجاورين للمسجد ومن حولهم، صحيحٌ أن هنالك عدمَ وضوحٍ في مسألة أضرار أبراج الاتصالات إلى الآن، فهنالك من العلماء المختصين من أثبت ضررها على صحة الإنسان وهنالك من نفاه، ولكن هنالك [بعض الدراسات العلمية التي تناولت تأثير أبراج الاتصالات الخلوية على صحة الإنسان، لما تصدره من إشارات كهرومغناطيسية ذبذباتها عالية جداً وتحتاج إلى طاقة عالية، وبعد فترات طويلة، فإن قربها من الناس قد يكون له أضرار صحية، وقد تساهم في تطوير أمراض سرطانية على المدى البعيد، وحيث إن منظمة الصحة العالمية قد حددت شروطاً لاختيار أماكن إنشاء أبراج الاتصالات منها: ألا يكون البرج داخل منطقة سكنية أو بالقرب من مدارس الطلاب. وهذا مؤشر على وجود الضرر من أبراج الاتصالات، وبمناقشة الادعاءات القائلة بعدم وجود دليل مادي على أن هنالك مخاطر لهذه الأبراج، نقول إنه لا يوجد في الدول النامية من العلم والخبرة أكثر مما هو متوفر لدى منظمة الصحة العالمية التي اشترطت إنشاء الأبراج خارج المناطق السكنية، لأن خطورتها تتمثل في الذبذبات والترددات التي تنبعث منها مما يؤكد وجود علاقة بين تلك الأبراج وبعض الأمراض الخطيرة، فهذه الموجات لها تأثير كبير على الجهاز العصبي وخلايا المخ وأمراض الأذن والقلب وألم الرأس وغيرها، ولقد أشارت بعض الأبحاث الحديثة إلى أن كثرة استخدام الهاتف النقال يؤدى إلى اضطرابات في السمع وخلل في الجهاز العصبي، فما بالكم بمحطات التقوية والأبراج التي تعتبر المصدر الرئيس المغذي لهذه الموجات والذبذبات. وبهذا الخصوص أعدت منظمة الصحة العالمية دراسات حول تأثيرات الإشعاعات المنبعثة عن أبراج الاتصالات على سلامة الإنسان والتي تؤكد أن الأبراج والهواتف النقالة تصدر أشعة (غاما) التي تعد إحدى المسببات الخطرة لأمراض السرطان خصوصاً إذا لم تلتزم بشروط السلامة الصحية.] وورد في بعض الدراسات أن بعض المتخصصين بينوا مخاطر أبراج الاتصالات على المدى البعيد وليس المباشر مما ينذر بخطر يشمل كل أهالي الذين هم على مقربة أو تماس مباشر بالبرج الذي يسبب تلوثاً كهرومغناطيسيا يؤدي للإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة. بل وقد يتسبب البرج بعدد من المشاكل لمرضى القلب حيث يؤثر على عمل أجهزة تنظيم دقات القلب، كما يؤثر بشكل سلبي على القدرة العامة للأفراد حيث يتسبب بالخمول والشعور المستمر بالتعب والإرهاق كما أن له تأثيرات مستقبلية على المدى البعيد وبالخصوص على الأطفال فقد أثبتت إحدى الدراسات الحديثة أوردها أحد المعاهد البريطانية المختصة ببحوث السرطان أن الإشعاعات الناتجة عن أبراج نقل الكهرباء أو الهاتف تسبب تلوثاً كهرومغناطيسيا غير مرئي يسبب سرطان الدم والعديد من الأمراض الخطيرة الجسدية والنفسية والتي قد تتدرج في الظهور على مراحل، كما أنها تسبب حالات من الإرهاق والقلق والتوتر والأرق وتأثيرها على المدى البعيد بالنسبة للأطفال كما ويعتقد أنها تسبب سرطان الدم (اللوكيميا) وسرطان الثدي لدى النساء وأمراض الجهاز العصبي المركزي ومنها الزهايمر، ومن الآثار السلبية للترددات الصادرة عن محطات الهاتف المحمول الحرارة المستحثة الناتجة من جراء التعرض لمجال راديوي قد تسبب نقصاً في القدرة البدنية والذهنية وتؤثر في تطور ونمو الجنين وقد تحدث عيوباً خلقية وتؤثر في خصوبة النساء، كما أن لها تأثيراً على الخلية وتفاعلاتها الكيميائية في جسم الإنسان ونسبة السوائل في الجسم ويعد وجود برج للجوال أو أعمدة للأسلاك الكهربائية بالقرب من المنازل أمراً خطيراً ويسبب الضرر وقد أثبتت العديد من الدراسات والمنظمات الطبية والبيئية ذلك، وهناك قائمة طويلة من الأعراض والأمراض المتهمة بها هذه الأشعة.] عن شبكة الإنترنت بتصرف. ومن المعلوم أن شريعتنا لإسلامية قد منعت إلحاق الضرر بالناس، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم ٢٥٠، وفي إرواء الغليل ٣/٤٠٨. وقد أخذ الفقهاء من الحديث السابق القاعدة الفقهية الكلية " لا ضر ولا ضرار: " ومعناها أن الفعل الضار محرم، وقد تفرع على القاعدة السابقة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ورد في شرح المادة رقم ٣٠ من مجلة الأحكام العدلية [درء المفاسد أولى من جلب المنافع، أي إذا تعارضت مفسدة ومصلحة، يقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة، فإذا أراد شخص مباشرة عمل ينتج منفعةً له ولكنه من الجهة الأخرى يستلزم ضرراً مساوياً لتلك المنفعة أو أكبر منها يلحق بالآخرين، فيجب أن يقلع عن إجراء ذلك العمل درءً للمفسدة المقدم دفعها على جلب المنفعة، لأن الشرع اعتنى بالمنهيات أكثر من اعتنائه بالمأمور بها] درر الحكام شرح مجلة الأحكام ١/٤١، فالمفاسد المترتبة على تركيب أبراج الاتصالات على مئذنة المسجد بعضها متحقق وبعضها متوقع وما كان كذلك فدفعه مقدم على جلب المصالح.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز شرعاً تركب برج اتصالات على مئذنة المسجد، لأن ذلك يتنافى مع تعظيم بيوت الله عز وجل، ويجب أن تصان المساجد عن مثل هذه الأمور. ولأنه لم يثبت إلى الآن انتفاء الأضرار الصحية لأبراج الاتصالات.