يقول السائل: اعتاد المصلون في المسجد الذي نصلي فيه أن يصلوا على الجنازة خارج المسجد وقد رغب بعض المصلين في نقل صلاة الجنازة إلى داخل المسجد ليكثر عدد المصلين على الجنازة حيث إننا نلاحظ قلة المصلين على الجنازة عندما تكون خارج المسجد فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الجنائز في مكان خاص يقال له مصلى الجنائز وكان خارج المسجد النبوي من جهة الشرق وثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنائز داخل المسجد النبوي فكلا الأمرين جائز ولا بأس به. ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الجنازة في مصلى الجنائز ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعاً. ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريباً من موضع الجنائز عند المسجد قال الحافظ ابن حجر:[ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها] فتح الباري ٣/٢٥٤. ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقاً بمسجد النبي صى الله عليه وسلم من ناحية جهة الشرق. المصدر السابق. ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مصلى للجنائز خارج المسجد ما جاء في الحديث عن محمد بن عبد الله بن جحش قال:(كنا جلوساً بفناء المسجد حيث توضع الجنائز ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهرانينا ...) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في أحكام الجنائز ص١٠٧. ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا فتخطى ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً؟ قالوا: نعم ديناران. فتخلف قال: صلوا على صاحبكم. فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما علي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء؟ فقال: نعم فصلى عليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: - وفي رواية ثم لقيه من الغد- فقال: ما صنعت الديناران؟ قال: يا رسول الله إنما مات أمس حتى كان آخر ذلك وفي الرواية الأخرى: ثم لقيه من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ قال: قد قضيتهما يا رسول الله قال الآن حين بردت عليه جلده. رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه أحمد بإسناد حسن كما قال الهيثمي. انظر أحكام الجنائز ص ١٦. وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى على الجنائز داخل المسجد فيدل عليه ما جاء في الحديث أن عائشة رضي الله عنها أمرت أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه فأنكر الناس ذلك عليها فقالت: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد. رواه مسلم. وفي رواية أخرى لمسلم عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. وفي رواية ثالثة لمسلم أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه فأنكر ذلك عليها فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. صحيح مسلم مع شرح النووي ٣/٣٣-٣٥.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:[ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد إذا لم يخف تلوثيه وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود] المغني ٣/٣٦٨. وقال النووي:[الصلاة على الميت في المسجد صحيحة جائزة لا كراهة فيها] المجموع ٥/٢١٣. وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن صلاة الجنازة تجوز في المسجد بلا كراهة وتجوز خارج المسجد أيضاً. وأما ما ذهب إليه بعض أهل العلم من كراهة الصلاة على الجنازة داخل المسجد أخذاً مما روي في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) رواه أبو داود وفي رواية لابن ماجة: (فليس له شيء) وفي رواية أخرى: (فلا أجر له) . فقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث اختلافاً كثيراً والجمهور على أنه حديث ضعيف وإن صح فمؤول كما سيأتي. قال الحافظ ابن عبد البر عن رواية (فلا أجر له) إنها خطأ لا إشكال فيه. فتح المالك ٤/٣٠٧. وقال الحافظ ابن عبد البر أيضاً: [وفي هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان: أحدهما حديث عائشة هذا والثاني حديث يروى عن أبي هريرة لا يثبت عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له) . وقد يحتمل قوله في حديث أبي هريرة هذا:(فلا شيء له) أي فلا شيء عليه. كما قال عز وجل:(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) سورة الإسراء الآية ٧ بمعنى عليها. وسئل أحمد بن حنبل وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه عن الصلاة على الجنازة في المسجد؟ فقال: لا بأس بذلك وقال بجوازه. فقيل: فحديث أبي هريرة؟ فقال: لا يثبت أو قال: حتى يثبت. ثم قال: رواه صالح مولى التوءمة وليس بشيء فيما انفرد به. فقد صحح أحمد بن حنبل السنة في الصلاة على الجنائز في المسجد وقال بذلك. وهو قول الشافعي وجمهور أهل العلم وهي السنة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى عمر على أبي بكر الصديق في المسجد وصلَّى صهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة وصدر السلف من غير نكير وما أعلم من ينكر ذلك إلا ابن أبي ذئب. ورويت كراهية ذلك عن ابن عباس من وجوه لا تصح ولا تثبت وعن بعض أصحاب مالك ورواه عن مالك. وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة وغيرهم] الاستذكار ٨/٢٧٣-٢٧٤. وقال الإمام النووي عن رواية (فلا شيء له) ضعفه الحفاظ منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر ابن المنذر والخطابي والبيهقي قالوا: وهو من أفراد صالح مولى التوأمة وهو مختلف في عدالته معظم ما عابوا عليه الاختلاط قالوا وسمع ابن أبي ذئب منه قبل الاختلاط] خلاصة الأحكام ٢/٩٦٦. وقال الإمام النووي في موضع آخر: [وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فجوابه من أوجه أحدها: أنه ضعيف باتفاق الحفاظ وممن نص على ضعفه الإمام أحمد بن حنبل وأبو بكر بن المنذر والبيهقي وآخرون قال أحمد هذا الحديث مما انفرد به صالح مولى التوءمة وهو مختلف في عدالته لكن معظم ما عابوا عليه الاختلاط قالوا وسماع ابن أبي ذئب ونحوه منه قبل الاختلاط وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه والله أعلم. والوجه الثاني إن الذي ذكره أبو داود في روايته في جميع نسخ كتابه المعتمدة (فلا شيء عليه) وعلى هذا لا دلالة فيه لو صح وأما رواية (فلا شيء له) فهي مع ضعفها غريبة ولو صحت لوجب حملها على (فلا شيء عليه) للجمع بين الروايات وقد جاء مثله في القرآن كقوله: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) أي فعليها. الثالث: أجاب به الخطابي وسائر أصحابنا في كتب المذهب أنه لو ثبت لكان محمولاً على نقصان الأجر لأن المصلي عليها في المسجد ينصرف غالباً إلى أهله ومن صلى عليها في الصحراء حضر دفنها غالباً فنقص أجر الأول ويكون التقدير فلا أجر كامل له كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة الطعام) أي لا صلاة كاملة] المجموع ٥/٢١٤. وقد احتج جماعة من أهل العلم برواية (فلا شيء له) ومنهم العلامة ابن القيم: [وهذا الحديث حسن فإنه من رواية ابن أبي ذئب عنه وسماعه منه قديم قبل اختلاطه فلا يكون اختلاطه موجباً لرد ما حدث به قبل الاختلاط وقد سلك الطحاوي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا وحديث عائشة مسلكاً آخر فقال: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد منسوخة وترك ذلك آخر الفعلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل إنكار عامة الصحابة ذلك على عائشة وما كانوا ليفعلوه إلا لما علموا خلاف ما نقلت. ورد ذلك على الطحاوي جماعة منهم: البيهقي وغيره قال البيهقي: ولو كان عند أبي هريرة رضي الله عنه نسخ ما روته عائشة لذكره يوم صلي على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلي على عمر بن الخطاب في المسجد ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد ولذكره أبو هريرة حين روت فيه الخبر وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره. قال الخطابي: وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلي عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه. قال: ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة إن ثبت متأولاً على نقصان الأجر. وذلك أن من صلى عليها في المسجد فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وان من سعى إلى الجنازة فصلى عليها بحضرة المقابر شهد دفنه وأحرز أجر القيراطين وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد. وتأولت طائفة معنى قوله:(فلا شيء له) أي فلا شيء عليه ليتحد معنى اللفظين ولا يتناقضان كما قال تعالى: (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) سورة الإسراء الآية ٧. أي فعليها. فهذه طرق الناس في هذين الحديثين. والصواب ما ذكرناه أولاً وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر وكلا الأمرين جائز والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد. والله أعلم] زاد المعاد ١/٥٠١-٥٠٢. وانظر أيضاً السلسلة الصحيحة ٥/٤٦٢ حيث فصل الشيخ الألباني الكلام على الحديث وقواه واحتج به ولكنه يرى جواز الصلاة في المسجد والأفضل في مصلى الجنائز وانظر أحكام الجنائز له ص١٠٦
وخلاصة الأمر أن صلاة الجنازة داخل المسجد صحيحة بلا كراهة لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان نقل الصلاة على الجنازة من خارج المسجد إلى داخله يؤدي إلى زيادة عدد المصلين عليها فهذا وجه معتبر شرعاً لأنه كلما كثر المصلون على الجنازة كان أفضل للميت وأنفع له فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شفعوا فيه) رواه مسلم. وعن كريب مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان فقال: يا كريب انظر ما اجتمع له الناس قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته فقال: تقول: هم أربعون قال: نعم قال: أخرجوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواه مسلم. وعن مالك بن هبيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا غفر له) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه النووي في المجموع ٥/٢١٢ وغير ذلك من الأحاديث.