للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٣ - يحرم على المحامي قَبول الوكالة في القضايا الظالمة

يقول السائل: إنه محامٍ وقد وكله شخصٌ في قضية تملك عقار، وقد علم من خلال عرض القضية أمام المحكمة أن موكله يدعي حقاً ليس له، فما حكم الاستمرار في الوكالة بالترافع أمام القضاء، أفيدونا؟

الجواب: مهنة المحاماة مبنية على عقد الوكالة المعروف عند الفقهاء، وهي إقامة الغير مقام نفسه في تصرفٍ جائزٍ معلومٍ. والمحاماة جائزة شرعاً بضوابط شرعية كثيرة، ومنها ما يتعلق بالسؤال وهو أنه لا يجوز للمحامي أن يقبل الوكالة في الخصومة في قضية فيها ظلمٌ أو إبطالُ حقٍ أو تعدٍ على حقوق الناس، أو قضيةٍ كيدية، فإذا علم المحامي أن موكله ظالمٌ ومبطلٌ، فيحرم على المحامي أن يقبل الوكالة ابتداءً، ويحرم عليه أيضاً أن يستمر في الوكالة إذا علم بذلك أثناء نظر الدعوى. ويدل على ذلك أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} سورة النساء الآيات١٠٧-١٠٩. قال الإمام الشوكاني: [ {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} أي: لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم والمجادلة مأخوذة من الجدل، وهو الفتل، وقيل: مأخوذة من الجدالة، وهي وجه الأرض، لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم، لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم، والخوان: كثير الخيانة، والأثيم: كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض] تفسير فتح القدير ١/٧٧١. ومنها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة الآية ٢، ولا شك أن الترافع في قضية ظالمة ومبطلة، والمحاماة عن أهل الباطل أنه داخل في عموم التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عز وجل عن ذلك فهو محرم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه، أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على أداء المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم] مجموع الفتاوى ٢٨/٢٨٤. ومنها ما ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه -أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري. ومنها ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعتُه دون حدٍ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دَينٌ فليس ثمَّ دينارٌ ولا درهمٌ، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطلٍ وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه حُبس في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال) وزاد الطبراني (وليس بخارج) . وورد في رواية أبي داود: [قيل يا رسول الله وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار] . قال العلامة الألباني: أخرجه أبو داود والحاكم والسياق له وأحمد ... وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ورجاله ثقات رجال مسلم غير يحيى بن راشد وهو ثقة كما في التقريب. وقال المنذري في الترغيب: رواه أبو داود والطبراني بإسناد جيد] سلسلة الأحاديث الصحيحة ١/٧٢٢. وانظر إرواء الغليل ٧/٣٤٩. قال الإمام الشوكاني: [قوله: (من خاصم) ، قال الغزالي: الخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وتارة تكون ابتداءً وتارة تكون اعتراضاً، والمراء لا يكون إلا اعتراضاً على كلام سابق، قال بعضهم: إياك والخصومة، فإنها تمحق الدِّين، ويقال: ما خاصم قط ورع. قوله: (لم يزل في سخط الله) هذا ذمٌ شديدٌ له شرطان: أحدهما أن تكون المخاصمة في باطل. والثاني أن يعلم أنه باطل، فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد، وإن كان الأولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلاً] نيل الأوطار ٩/١٤٢. وورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن أعان على خصومةٍ بظلمٍ فقد باء بغضبٍ من الله عز وجل) رواه أبو داود وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/٥٤٥. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثلُ الذي يُعين قومَه على غير الحق، كمثل بعيرٍ تردى في بئرٍ فهو ينزع منها بذنبه) رواه أبو داود وابن حبان، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ٢/٥٤٦. قال الحافظ ابن المنذر: [ومعنى الحديث أنه قد وقع في الإثم وهلك كالبعير إذا تردى في بئر فصار ينزع بذنبه ولا يقدر على الخلاص] المصدر السابق. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه] . وقد عدَّ أهل العلم أن الإعانة على الخصومة بالباطل من كبائر الذنوب، قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه الكبائر ١/١٥٢: [باب من أعان على خصومة في الباطل، وقول الله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] سورة المائدة الآية ٢، وقوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} النساء الآية ٨٥] ثم ذكر حديث ابن عمر الأول. وقد قرر كثير من أهل العلم حرمة الوكالة بالخصومة عن موكلٍ ظالمٍ ومبطلٍ، قال ابن مفلح المقدسي: [وقال ابن عقيل في الفنون: لا تصح وكالة من علم ظلم موكله في الخصومة، فظاهره يصح إذا لم يعلم، والظاهر أن مراده بالعلم أيضاً الظن وإلا فبعيدٌ جداً القول به مع ظن ظلمه. فإن قيل ظن التحريم لا يمنع صحة العقد بخلاف العلم به ولا يلزم من هذا أن يخاصم في باطل فلا معارضة بينه وبين ما سبق قيل: ليس المراد من التوكيل وصحته إلا المخاصمة فيما وكله فيه مما يعلمه، أو يظنه باطلاً وإلا فكان يمكن تصحيح العقد مع العلم، ولا يخاصم في باطلٍ فلا مفسدة في ذلك، وقد دل كلامه على أنه لو شك في ظلمه صحت وخاصم فيه وعلى هذا عمل كثير من الناس أو أكثرهم يتوكلون ويدعون مع الشك في صحة الدعوى وعدمها؛ لأنه ليس بمخبر عن نفسه، وإنما يخبر عن الموكل ويبلغ كلامه لكونه لا يلحن بحجته، ولأن الحاجة قد تمس إلى ذلك لكثرة مشقته، وهذا بخلاف المدعي لنفسه لخبرته بأحواله وقضاياه والله أعلم.] الآداب الشرعية ١/٢٩. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويشترط في جواز الدعوى أن يعلم صدق المدعي، فأما إن لم يعلم لم يحل له دعوى بشيء لا يعلم ثبوته] المغني ٥/١٣. وقال المرداوي: [وقال القاضي في قوله تعالى {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره] الإنصاف ٩/٢٠٨. وقال الرحيباني الحنبلي: [لا تصح الوكالة لو ظن الوكيل ظلمه أي: ظلم موكله إجراءً للظن مجرى العلم قال في الإنصاف: قلت: وهو الصواب] مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى ٩/٣٧٧. وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما يلي: [إذا كان في الاشتغال بالمحاماة أو القضاء إحقاقٌ للحق وإبطالٌ للباطل شرعاً وردٌ الحقوق إلى أربابها ونصرٌ للمظلوم، فهو مشروع ; لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى، وإلا فلا يجوز ; لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ] عن شبكة الإنترنت. وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [ ... وأن لا يقبل - أي المحامي - دفاعاً عن موكِلٍ مبطلٍ، وإذا ظهر له أثناء سير الدعوى أن موكله مبطلٌ فعليه أن ينسحب منه شرعاً، ويستطيع أن يشرط ذلك على الموكل.] فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا ص ٣٨٠-٣٨١. وقال الدكتور زيد بن عبد المحسن نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان في المملكة السعودية: [يجب على المحامين أن لا يتوكلوا عن غيرهم في دعوى أو نفيها عند علمهم ببطلانها أو كذب صاحبها لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاصم في باطلٍ وهو يعلمه لم يزل في سخط حتى ينزع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حيث ورد في المادة ١١/١ من لائحة تنفيذ نظام المحاماة "على المحامي ألاّ يتوكل عن غيره في دعوى أو نفيها وهو يعلم أن صاحبها ظالمٌ ومبطلٌ، وألاّ يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي"] صحيفة المدينة السعودية عن شبكة الإنترنت. إذا تقرر هذا فعلى المحامين أن يحذروا المبطلين من المدَّعين الذين يزورون الحقائق، ويزينون الباطل، حتى تنطلي الأمور على موكليهم من المحامين، فيسيرون معهم في الدعاوى الباطلة التي يترتب عليها ضياع حقوق الناس، وأكل أموالهم بالباطل، أو يترتب عليها التشهير بالناس كما هو الحال في القضايا الكيدية، التي يُقصد بها تشويه صورة المدعى عليهم، وهم أبرياء مما رماهم به خصومهم، وليحذروا ممن يتلاعبون بالألفاظ لتزيين باطلهم، الذين ينطبق عليهم ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كلُ منافقٍ عليم اللسان) رواه أحمد وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة ٣/١١. ولا شك أن [التمسك بأخلاقيات هذه المهنة يؤدي لرفض المحامي أو الوكيل بالخصومة قبول الوكالة في الدعاوى الكيدية التي لا يهدف صاحبها منها إلا الانتقام من خصمه وتوجيه الأذى له، وإشغال ساحات العدل بمجادلات طويلة لتسويف الدعوى والإضرار بخصمه مادياً ومعنوياً، مما يؤثر على إقرار العدل.] أثر أخلاقيات المحامي على العدالة والقضاء د. ناصر المعيلي. عن شبكة الإنترنت.

وخلاصة الأمر أنه يحرم على المحامي أن يقبل الوكالة في أي قضية مع علمه أنها باطلة، أو مع علمه أنه قد يترتب عليها أكل أموال الناس بالباطل، أو قضية فيها إلحاق ظلم، أو إجحافٍ بحقوق الناس، أو قضية كيدية، وكذلك يحرم على المحامي أن يستمر فيها إذا ظهر له ذلك أثناء التقاضي، ولا يجوز للمحامي الترافع في قضيةٍ إلا إذا علم مشروعية الدعوى ومضمونها.

<<  <  ج: ص:  >  >>